د. عبد الرحمن الحبيب - الجزيرة السعودية منذ دشّن رائد الإصلاح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مشاريعه الإصلاحية ومنها الانتخابات البلدية، تناول البعض فكرة انتخابات مجلس الشورى باعتبارها مرحلة تالية.. وتشكّل توجهان: الأول لا يرى أنها مناسبة في هذه المرحلة، بينما الثاني يراها مناسبة أو ضرورية.. التوجُّه الأول يرى أنه من حكمة القيادة السعودية أنها تدرك أنّ عملية الإصلاح، ومنها الدمقرطة، عملية تدريجية تمر بمحطات تطويرية تكون الانتخابات العامة آخرها وليس أولها. كما يرى البعض أنه لا بد من تطوُّر الظروف وتهيئة البيئة المناسبة للوصول إلى صناديق الاقتراع، مثل نضج الوعي السياسي ودعم المزيد من الحقوق المدنية والحريات العامة ومؤسسات المجتمع المدني وتوسيع صلاحيات مجلس الشورى.. وإشاعة ثقافة المشاركة بالقرار وثقافة الانتخاب عبر ممارستها في الميادين المختلفة كالمجالس البلدية ومجالس المناطق والغرف التجارية وغيرها. ويطرح هذا التوجُّه ما يحدث لتعثر الانتخابات في بلدان عربية، حين اختزلت الديمقراطية بالانتخابات التي إما أنها مجرّد حبر على ورق، أو أنها أثارت بعض الإشكالات والطموحات الفئوية وأعاقت الحركة الإدارية والتنموية، لأنّ توجُّهات غالبية الناخبين سارت على غير التوجُّه الوطني نحو الكفاءة، بل نحو الفئوية القبلية أو الطائفية أو المناطقية.. وهناك من لا يرى جدوى الانتخابات إذا كانت بعض شروطها الأساسية غير متوفرة، مثل اكتمال حرية الرأي والتجمع وتكافؤ الفرص والمشاركة في القرار.. أما التوجُّه الثاني فيرى أنّ عملية الإصلاح والدمقرطة عملية متكاملة لا تتجزأ، ومنها الانتخابات العامة، التي ستدعم مسيرة الملك عبد الله بن عبد العزيز الإصلاحية وترسِّخ الاستقرار السعودي وتراكم إنجازاته.. ويرى أنّ نضج الظروف للانتخابات يأتي بممارستها. أي أنّ الإشكالات التي تصاحب العلمية الانتخابية هي أخطاء ضرورية للتعلُّم والتطوُّر كأي تجربة جديدة.. فالناخب الذي لا يختار وفقاً لكفاءة المرشح بل لأسباب إيديولوجية أو قبلية أو مناطقية، سيعي مع الممارسة خطأ تقديراته وسيتجنبها في الانتخابات القادمة. أما النواقص في متطلّبات الجو الديمقراطي، فسيتم تغطيتها بمرور التجربة وليس قبلها.. ويعترض هذا التوجُّه على الزعم بأنّ المجتمع السعودي غير مهيأ لذلك، ويطرح أمثلة لدول مجتمعاتها أقل من السعودية في نضج ظروفها الاجتماعية ووعيها الثقافي والسياسي، ومع ذلك تمّت الانتخابات بسلاسة ونجاح، فالعبرة هو باستقرار الدولة وتماسك نُظُمها خاصة الأمني، والسعودية من أكثر الدول استقراراً وأماناً فلا مبرر للتخوف من الانتخابات. النقاشات في كلا التوجُّهين افتراضية وعقلية، بمعنى أنها لا تستند على الدراسات العلمية والإحصاءات الميدانية، لذا تأتي الدراسة الاستطلاعية التي عُرضت ضمن اللقاء الأول للمجالس البلدية بمنطقة عسير الذي عقد بجمادى الأولى الماضي، التي قام بها عضو المجلس البلدي المنتخب بخميس مشيط، د. وليد سعيد أبو ملحة، حول اتجاهات الناخبين في اختيار المرشحين في الانتخابات البلدية، لتغطي جزءاً بسيطاً من النقص الحاصل في معرفة الظروف الاجتماعية للانتخابات، خاصة الوعي الجمعي والنمط السلوكي. وتضمّنت الدراسة معايير اختيار المرشحين، ومستوى نزاهة الانتخابات، ومدى الثقة في برامج الناخبين، ومدى تأييد مشاركة المرأة في الانتخابات كناخبة ومرشحة.. وقد لخّصت الأستاذة تغريد العلكمي (صحيفة الوطن) هذه الدراسة في تقرير وافٍ سنعتمده في مناقشة نتائج هذه الدراسة. بالنسبة للأساس الذي يختار به الناخب مرشحه، أوضحت النتائج أنّ العنصر القبلي كان أهم العناصر في اختيار المرشح بنسبة 36%، يليه المعرفة الشخصية والعلاقات الأسرية والاجتماعية بنسبة 29%، ثم الانتماء الفكري بنسبة 23%، في حين كانت الكفاءة المهنية ومنطقية البرنامج الانتخابي هي الأقل بنسبة 11%. ولا ننسى هنا أن نذكر أنّ الدراسة كانت في محافظة خميس مشيط واستمرت لمدة ستة أشهر بعد انتهاء الانتخابات وظهور نتائجها. هذا يعني أنّ نتائجها منحصرة في منطقة معيّنة لفترة معيّنة، فهي مجرّد مؤشر على توجُّهات الناخبين وليست دليلاً عاماً. ومع ذلك فإنّ هذه النتائج تدعم وجهة نظر التوجه الأول الذي يفضل تأخير الانتخابات العامة لمرحلة أكثر نضجاً. فإذا كانت الانتخابات البلدية التي تُعَد مسألة خدمية تقنية وأبعد ما تكون عن الانتماءات، لم تنل فيها الكفاءة المهنية والبرنامج الانتخابي إلا تقريباً عُشر النسبة، فيما المفترض أن تكون هي النسبة الأولى، فكيف سيكون حال الانتخابات العامة!؟ وهذه النسبة المتدنية قد تفسرها جزيئاً نتيجة أخرى في الدراسة، وهي أنه فقط 24% أظهروا ثقتهم ببرامج المرشحين، مقابل 76% لا يثقون بها. فإذا كانت الأغلبية لا تثق ببرنامج المرشح، فمن الطبيعي أن تلجأ إلى معيار آخر في الاختيار غير الكفاءة. إنما هذه النتيجة لا تعني بالضرورة دعم وجهة نظر التوجُّه الأول، فالتوجُّه الثاني يمكن أن يطرح مبرراته بأنّ الثغرات التي ظهرت في التجربة الانتخابية الأولى يمكن تلافيها مستقبلاً.. هذه الثغرات مثل قصر الفترة الإعلانية للمرشحين، وهي 12 يوماً، تُعَد فترة غير كافية للمرشح كي يبرز برنامجه الانتخابي ومدى كفاءته في إنجاز هذا البرنامج. أضف إلى ذلك ضعف الحملات الإعلانية والتوعية الإعلامية وضيق الوقت المتاح. ولتلافي ذلك مستقبلاً فإنه ينبغي وضع برامج توعية للناخب والمرشح على المستويات التربوية والإعلامية والإعلانية، ترشد المواطنين بأهمية الانتخاب، وتوضح للناخبين أساليب اختيار القادرين على العطاء وتحقيق التطلُّعات نتيجة كفاءاتهم ومشاريعهم وبرامجهم وليس على أساس انتماءاتهم، وتساعدهم في إدراك المعايير المناسبة للترشيح كلٌ حسب برنامجه الانتخابي ومنهجه التطبيقي ومحاسبة أدائه الوظيفي فيما بعد.. وهذا يتماشي مع التوصيات التي استنتجها الدكتور أبو ملحة في دراسته البحثية، ومنها أنّ ضعف الثقة في المرشحين للانتخابات يعكس أنّ برامج هؤلاء المرشحين تفتقد للمصداقية، وأنّ المبالغة في البرامج كانت ظاهرة مما يدل على عدم وعي المرشحين بمهام المجالس البلدية وصلاحيتها. وكان أهم التوصيات التي خرج بها أبو ملحة عن هذه الدراسة البحثية هي نزاهة الانتخابات، حيث أظهرت النتائج أنّ 92% من المشاركين في الدراسة عبّروا عن نزاهة الانتخابات، فيما ذكر 8% فقط عدم نزاهتها. كذلك فقد تم تنفيذ العملية الانتخابية باحترافية في إجراءاتها الإدارية والتقنية، وكانت آلية إجرائها مثالية مقارنة بحداثة التجربة، وهذا يشجع على استمراريتها وتطويرها. ولكن - حسب الدراسة - فإنّ تلك الجودة الإدارية والتنفيذية لم يواكبها الجانب البشري، من حيث وعي الناخب والمرشح، سواء في فهم ثقافة الانتخابات أو فهم الأدوار المناطة بالمجالس في البرامج الانتخابية للمرشح وعدم المنطقية في الاختيار في أغلب الأحيان بالنسبة للناخب.. والآن، هل ترى أنّ الانتخابات العامة حان وقتها أم لم يحن بعد؟ .. الإجابة لا تعتمد فقط على الأفكار النظرية والميول السياسية، بل من المهم الاستفادة من الدراسات العلمية، وكما أشار أبو ملحة فهناك حاجة لمزيد من الدراسات والبحوث لمعرفة الكثير عن النمط السلوكي الاجتماعي لمجتمعاتنا وأثره وانعكاساته على ثقافة الانتخابات..