قبل عدة أشهر شهد المشهد الثقافي العربي معركتين مستعرتين ضمن معارك متعددة بطبيعة الحال، كانت كل واحدة منهما بين رموز ثقافية ذات اختصاص وتقارب، الأولى في السعودية بين الشاعر الحداثي المعروف محمد العلي وخصمه الجديد الناقد المعروف عبدالله الغذامي، والثانية في تونس بين باحثين معروفين هما: محمد الطالبي من جهة وعبدالمجيد الشرفي وآخرون معه في الجهة المقابلة، وقد شملهم الطالبي بنقد وصل حد التجريح في كتابه الأخير الذي اختار تسميته «ليطمئن قلبي»!. يحسب كاتب هذه السطور أن اطمئنان القلب بالنسبة للمثقف يكمن في ارتياحه لطريق الخلاص الذي يرتضيه لنفسه بعد بحث وتأمل وجهد ومعاناة، ولكنه بالتأكيد لا يمكن أن يكون أبدا بقذف الآخرين والتشكيك في ديانتهم ومعتقداتهم في يقينية مفرطة لا تناسب الباحث الجاد ولا تلائم مسالك البحث الفلسفي العميقة، التي تكون مساحة النسبية فيها أكبر بكثير من مساحة اليقين والقطع، وبالتأكيد ليس بتسميتهم ب«الانسلاخسلاميين» كما فعل الطالبي. أثير لغط كثير حول هاتين المعركتين، وتراشق الخصوم فيها ما شاءت لهم الحمية وما منحتهم اللغة من مفردات، فلم تشأ غالبيتهم أن تختار عبارات البرد والسلام، بل فضلت عبارات الحميم والنيران، فحين اتهم الطالبي خصومه في دينهم وعقيدتهم اختار الغذامي عبارات قاسية في حق العلي بعضها لا يتناسب مع أفكار الغذامي ولا مع طرحه. وفي الأسبوعين الأخيرين فاجأنا الغذامي من جديد باستهداف أسماء أخرى من تيارات وتوجهات مختلفة، فرشق خصومه بالتفاهة واللامعرفة، فهو في الرواية يزري بتركي الحمد، وفي الشعر بعايض القرني وفي الغناء بمحمد عبده وفي النقد بسعد البازعي وفي الكتابة بخالد الدخيل وغيرهم كثيرون ممن نالهم قصفه الذي يمكن تسميته بالعشوائي هذه المرة. إن التأخر في كتابة تاريخ الظواهر الاجتماعية كظاهرة الحداثة يثير الضغائن لاحقا، ومن حقنا أن نعترف أنه ليس من ذنب الغذامي أنه كتب حين سكت الآخرون، وأرخ حين أحجم الأكثرون، وأن من حقه أن يتناول تلك الظاهرة كيفما يشاء، وقد كتبت قراءة لما كتب في حينه ونشرت آنذاك، وكم نتمنى أن يفعل محمد العلي ذات الشيء، وأن يكتب تركي الحمد وعايض القرني ومحمد عبده وكثيرون غيرهم من الباحثين والكتاب والمبدعين وذوي التجارب الذين عاصروا مراحل مهمة من التطور والحراك الثقافي والفكري، وذلك ليثروا المشهد الثقافي ويمنحونا من المعرفة ما يجعلنا أقدر على تبين كافة زوايا الصورة في ما يتعلق بتاريخ الحراك الثقافي في السعودية. من قال إن المثقفين لا يختصمون! ومن ذا الذي زعم أنهم لا يستعملون في الخصومة أساليب غير حضارية وغير مدنية! إن تركيبة البشر وطبائعهم تمنع من ذلك، بل وتثبت عكسه أيما إثبات، إنهم يختصمون بأساليب راقية ويختصمون بأساليب متدنية، ينظرون للحوار عند الاختلاف ثم يخوضون المعارك الضارية عندما تتدخل المصالح الشخصية أو الخوف على النفوذ والمكانة تماما كما يصنع غيرهم من أرباب التوجهات والاهتمامات المختلفة، فالأطباء يختلفون والمهندسون والفلكيون والجغرافيون وغيرهم كثير، كما اختلف الفلاسفة من قبل ومن بعد وكما اختلف رجال الدين من أولهم إلى آخرهم، فشخصيات البشر ونفسياتهم تؤثر فيها طبائعهم ومصالحهم، وأحسب أن هذا أمر مسلم به لا يحتاج لتدليل وإنما تكفي فيه الإشارة. قرأت قبل فترة كتابا صغيرا كتبه أحد التائبين من أتباع الجماعة الإسلامية في مصر وهو خالد البري وكان الكتاب تحت عنوان مثير هو «الدنيا أجمل من الجنة» قال فيه البري عبارة يحسن ذكرها والتعليق عليها في هذا السياق وهي قوله: «منذ عايشت المثقفين العلمانيين لم أسمع أحدهم يذكر أخاه في غيبته بكلام طيب»، ونؤكد هنا أن هذه العبارة ليست صادقة بإطلاق وإنما فيها شيء من الصدق، فالمثقفون أيا كانت توجهاتهم ومدارسهم وقناعاتهم هم بشر من البشر، فيهم المخلص الصادق وفيهم غيره، فيهم المتواضع الودود وفيهم المتكبر الصدامي، وقديما قيل: «لو خليت لخربت». في استحضار لمعارك الغذامي الأخيرة التي فتحها مع الكثيرين، وفي محاولة لفهمها أحببت العودة لجواب لعبدالله الغذامي قبل سنوات على سؤال لإحدى الصحف الإلكترونية كان السؤال عن آخر مرة غضب فيها فكان جوابه: «كثيرا، للأسف هذه مشكلة قاتلت للتخلص منها ولم أستطع، كثيرا ما أغضب، لكنني سرعان ما أرجع وأعتذر لمن أضر به غضبي.. منذ مدة أغضبت أحد الأشخاص العزيزين على قلبي، وقابلته بعدها في مناسبة عامة، فاعتذرت له وقبلت رأسه، وكان وقع الاعتذار كبيرا في نفسه حتى إنه دمعت عيناه، وما كان هذا الشعور سيظهر لو لم أخطئ بحقه أصلا!». الخصومات الثقافية مفيدة وضرورية لإثارة الجدل وتحريك المياه الراكدة وإجبار العقل على مزيد من الفعالية، وبالتالي تساقط الثمار الثقافية على شكل بحوث ودراسات وكتب ومقالات وحوارات تثري المشهد وتفيد المجتمع ويترقى الجميع بحدة المنافسة على الإبداع والتميز، لا جدال في هذا ولكن المشكلة هي عندما تتحول هذه الخصومات والجدالات الثقافية من مجالها الطبيعي الذي هو الفكر والأدب والثقافة إلى أن تصبح معارك شخصية يتراشق فيها الخصوم الاتهامات والشتائم بما يحيلها من فعل ثقافي منتج إلى مهاترات غوغائية ضررها قوي ونفعها شبه معدوم. العاقل خصيم نفسه، ولذلك فإن من يدخل مثل هذه الخصومات أو المعارك الثقافية من العقلاء يعاود نفسه بعد فترة فيدكر بعد حماسة ويتراجع بعد اندفاع ويعود على نوازع نفسه التي دفعته للخطأ بالكبت، ويعترف بما اقترف ويتراجع عن ما جنى، بعكس المكابر الذي يدافع عن أخطائه ويصر عليها وكأن شيئا لم يكن!. حين تصل بعض المعارك الثقافية إلى حد إفشاء الأسرار والطعن في دين الآخر واستعداء الغوغاء عليه نعلم أننا قد وصلنا إلى مرحلة الفجور في الخصومة، وحمل الآخر على أسوأ المحامل، كما أورد الطالبي في خصومته الآنفة الذكر قصة خاصة تفيد بأنه كان مع خصمه الجديد وحضرت الصلاة فلم يصل الآخر، ومع أن هذه حادثة تحتمل ألف مخرج خير إلى أنه ذكرها في سياق الطعن في دين خصمه وعقيدته بل وإسلامه وتلك مصيبة وأي مصيبة!. المسكوت عنه في تاريخنا الثقافي لم يزل كبيرا وخطيرا، ومجال البحث فيه رحب وطرق معالجته مفتوحة على مصراعيها، فمن حكاية الخطاب الديني التقليدي والصحوي إلى حكاية التركيبة الاجتماعية والتقاليد الموروثة إلى الثروة النفطية وتأثيراتها الضخمة سياسيا واجتماعيا وثقافيا إلى الطائفية إلى غيرها الكثير مما لم يرو بعد ولم يحظ بما يستحقه من تدوين وعرض ونقد، وهو ما سيحدث في قابل الأيام دون شك، ويبقى الأمل هو أن يتم تناول تلك الحكايات والأحداث بموضوعية تتسامى على المواقف الشخصية والعواطف الفردية قدر المستطاع.