لم آخذ في حياتي القرائية أو النقدية أفكار أصحاب الأسماء المستعارة على محمل الجد لأن الفكرة لدي – إيمان – ويعتريه التشويه حين يفتقد المصدر. وحتى في بعض الأفكار الجريئة الشجاعة، لا أعلم سبباً واحداً لتغليفها بالهزيمة والجبن حين يلجأ صاحبها إلى اسم مستعار، وربما كانت هذه إحدى ضرائب الثورة الإلكترونية التي وإن احتشدت بكم هائل من الغث والرماد والغبار إلا أن فيها من شوارد بعض الأفكار البيضاء ما يستغرب من صاحبها هروبه إلى دفن الشخصية. يلفت نظري – بعض الملفات الفكرية لموقع – شرفات عسير – الإلكتروني، لا لأنه حتى بلغته الليبرالية المعتدلة يقصفني شخصياً بشكل ثابت فهذه نيران صديقة تعودتها من جل المواقع الصادرة من هذا المكان، بل لأنه أحياناً يطرح بعض القضايا التي تأخذني إلى لذة الجدل وهي تدغدغ بعض اهتماماتي الشخصية. في بحر الشهر الماضي تابعت ملف الشرفات حول (المثقف في عسير ورسالته لمن حوله) وهو للأمانة أول جدل فكري حقيقي لسؤال يفترض أن الزمن قد سبق أن حسمه: ماذا يريد المجتمع من المثقف؟ ورغم بصمتي بالموافقة مع شيء من أطروحة الملف، إلا أنني أجد نفسي مستفزاً (بفتح بالفاء) مع سواد الأطروحة ولربما كان موقفي التصادمي مع هذا الاختلاف يعود بالضبط إلى أنني بلغت من العمر ما يسمح لنفسي بالاستيقاظ من سباتها وتجاهلها لوقع جيل جديد من بعدي، وبعد مجايلي له أسئلته المختلفة وله قولبته الخاصة للمثقف الذي يريد ولإرادته من هذا المثقف. ودائماً، ومن وجهة نظري، تبقى فترة – الأربعين – وما بعدها بقليل من العمر أخطر فترات صاحب الرأي (لم أقل المثقف) لأنه يعيش منتصف المسافة حيث هو ثائر على إرث الجيل الأسبق، ومتعال لا يريد الإيمان بأن الزمن قد أزف وأن الأرض من تحته قد اهتزت لتربو عن جيل مختلف يبرهن عن شيء وحيد: أنه أصبح – دقة – قديمة وأن جلده الثقافي لم يعد يتسع لبطركة من بعده. وتمهيداً لإجابة السؤال عن ماذا يريد المجتمع من المثقف سأمرُّ على تعريف موقفي من هذه الوظيفة. أولاً، فأنا مؤمن باستحالة ظهور المثقف – العضوي – ذلك الذي يتطابق تماماً مع وظيفته وبالخصوص في مجتمعنا الذي ما زال غضاً على القبول بالمثقف بحسب التعريف الصحيح للمثقف العضوي كصاحب دور طلائعي في تشكيل الوعي والريادة الاجتماعية. ثانياً، أنا مؤمن أن المثقف هنا دوماً ضحية للمحاذير في الجانبين الاجتماعي والرسمي، وبدلاً من أن يقوم بدوره المأمول في القولبة الاجتماعية نجد ما يشبه النقيض إن لم يكن العكس تماماً ليصبح المثقف نسخة من برامج – ما يطلبه المشاهدون – عوضاً أن يكون هو صاحب الرؤية التي يأخذ بها هذا الجمهور للوجهة التي يظنها الأصلح له. في غياب الحوار وحرية البوح بالأفكار وفي ظل السطوة الجارفة للرقيب الاجتماعي بالتحديد يصعب أن يكون المثقف كتلة مستقلة ولهذا تبقى أسئلة المجتمع لدور المثقف تناور في منطقة محسومة محددة لأن المجتمع في الأصل قد حسم للمثقف مساحته الخضراء الضيقة في قدرته على الأجوبة. وردفاً للسؤال الأصل، ماذا يريد المجتمع من المثقف دعونا نطرح السؤال: من هو المثقف الذي تعنون؟ نخطئ حين نظن أن المثقف هو صاحب – الإصدار – التأليفي الغزير أو أنه المؤرخ أو الباحث أو الروائي أو الشاعر بديوان مطبوع – المثقف العضوي الحقيقي هو الآلة التي تمتلك كفاءة أدوات التحليل للظواهر الاجتماعية ومزجها بالمقابل أو الرديف أو الفطري التلقائي للمسبار الفكري المناسب الذي يدرس هذه الظواهر ليضع المجتمع من حوله في الصورة كي يعرف المجتمع أن يقف بالضبط من إشارات المسطرة. المثقف العضوي هو من يستطيع بالتحليل خلخلة الأمراض المجتمعية وتحديد أسبابها ووصفة علاجها والمثقف العضوي هو من يستطيع أن يحمل في تحليله بعداً أفقياً واسعاً في دراسة الظواهر والمثقف العضوي هو الأبعد ما يكون عن أن يكون أسيراً لانتماءات ومكانات جغرافية ضيقة. خذ مثلاً اختلال النظرة بأن يكون المثقف عسيرياً أو قصيمياً لأن الكنية المرادفة خلف لفظ – المثقف – لا تعني إلا سطوة المكان عليه وهي مرة أخرى سطوة تجعله أسيراً لطلب الجمهور. المثقف الحقيقي لا يقف خلف العربة. لكن السؤال الأكثر خطورة وعمقاً في الملف (المشار إليه بعاليه) ليس إلا: هل يشترط في المثقف أن يتصادم مع المجتمع والسلطة كي يكون مستوفياً لأركان اللقب الفخري مثلما هي صلب بعض أطروحات الإخوة المتجاورين حول ملف المثقف؟ للأسف الشديد أن أقول إن هذه فكرة – صحونجية – في أطروحة (بني ليبرال) معتدل وهذه أيضاً من إشارات التطابق النادرة ما بين التيارين. استقلال المثقف لا يعني انسلاخه من القيم الاجتماعية الثابتة واستقلاله لا يعني مطلقاً أن يكون على اختلاف مع المجتمع أو السلطة. المثقف العضوي الحقيقي هو من يؤمن بشرط اللقب ألا يكون – عضواً – خارج الجسد، بل عضواً متناغماً من الداخل الاجتماعي والرسمي، وكل شيء عدا ذلك ليس إلا من باب الفئوية الحركية. وتثبت الأدبيات أن المثقف الأكثر تأثيراً هو من يؤمن بارتباطه كنقطة ثالثة ثابتة في أركان مثلث – المجتمع والمثقف والسلطة – وقدرة نجاحه وتأثيره وقيادته للوعي والتشكيل تكمن في حفاظه على موقعه الثابت المنسجم المستقل في نقطة المثلث دون أن يتحرك خارجه أو حتى نحو أي من النقطتين الأخريين في ذات المثلث. يختلف مع النقطتين الأخريين (المجتمع والسلطة)، أي نعم ولكنه طبع الاختلاف المحمود لحلحلة الأمراض غير الحميدة. التاريخ يثبت أيضاً أن كبار المثقفين العضويين مثل توينبي وسارتر ودريدا وبيرنارد رسل كانوا في قلب مجتمعاتهم تفاعلاً وتأثيراً وانسجاماً لأنهم وقفوا على رأس العربة ولكن مع العربة. ذات التاريخ يبرهن أن النشاز لم يكن وبالطبع لن يكون مثقفاً عضوياً لأن ما كان خارجاً عن العضو قد نسميه أي شيء: ثائراً أو معارضاً أو قائد تنظيم ضخم. هؤلاء أبعد ما يكون عن التثاقف العضوي وهؤلاء ذهبوا إلى هامش التاريخ بإثبات أوراقه.