في قصة قديمة قرأتها لأول مرة وأنا طفل صغير في إحدى مجلات الأطفال (الكوميكس)، ولعلها مجلة «بساط الريح» إن لم تخني الذاكرة، وذكرني بها صديق من خلال رسالة إيميلية، يقبض الملك لويس الرابع عشر، وهو المشهور بمقولة: «أنا الدولة والدولة أنا»، على أحد المتمردين عليه، ويضعه في سجن «الباستيل» الرهيب، تمهيدا لتنفيذ الحكم بالإعدام فيه. وكي يبدي الملك شيئا من الرأفة والنبل تجاه سجينه من النبلاء، يقول له بأنه قد وضع مخرجا سريا يستطيع السجين معه أن يخرج إلى عالم الحرية خلال ثلاثة أيام، وهو وقت طويل للتفكير خاصة في سجن مثل الباستيل. وخلال ثلاثة أيام يحاول السجين أن يبحث عن هذا المخرج بكل السبل، ولكنه يفاجأ بالمعضلة تلو الأخرى في كل زاوية يعتقد أنها مخرج. وبعد نهاية الأيام الثلاثة، يأتي الملك صباح تنفيذ حكم الإعدام للسجين الغاضب الذي يتهمه بالكذب والخداع، حيث إنه بحث وفتش في كل زاوية، ولكنه لم يجد مخرجا. هنا ابتسم لويس وقال: «الملك لويس لا يكذب..»، ثم دفع بوابة السجن فإذا بها تنفتح على مصراعيها، وقال للسجين: «لقد كان المخرج أمامك طوال الوقت.. كانت البوابة مفتوحة على الدوام..»، وقيد السجين إلى المقصلة بدلا من الحرية. المغزى من هذه القصة، التي لا ندري حقيقتها التاريخية من عدمها، هو أننا دائما أسرى قواعد معينة للتفكير لا نكاد نخرج عنها، وهذا الأسر يجعلنا في كثير من الأحيان غير قادرين على حل مشكلات كان من السهل حلها لو أننا غيرنا الزاوية التي ننظر بها إلى الأشياء، أو خرجنا عن المألوف من التفكير، ولكن دوام التفكير من خلال «الصندوق المغلق»، أو العقل المبرمج، هو الذي يبقينا عاجزين عن حل مشكلات ما كان لها أن تبقى دون حل لو أن «الصندوق» لم يكن مغلقا، أو خرجنا عن برمجة العقل قليلا، ولكن لذلك حكاية قد تطول بعض الشيء، ولنبدأها من أولها. من المقولات الشائعة في عصرنا أن العقل هو السبيل إلى إنتاج معرفة يُعتمد عليها ويُعتد بها، وهو أداة المعرفة الحقة، أي المعرفة التي تقوم على الحقيقة العلمية والبرهان، وليس تلك المعرفة التي تقوم على الوهم والهذيان. مثل هذه المقولة ليست صحيحة على إطلاق الكلمة، فالعقل عقول، والمعرفة معارف، ولذلك نميز بين عقل وآخر، فنقول العقل الغربي والعقل العربي، وعقل العصور الوسطى وعقل التنوير، والعقل التقليدي والعقل الحديث، وهكذا. فالعقل في نهاية المطاف ليس جوهرا بذاته، كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة وأهل الكلام في تاريخنا وتاريخ أقوام أخرى، بل هو أداة يمكن أن تُبرمج وفق آليات تفكير معينة، فتوضح له الحدود والأنظمة التي يمكن له أن يُفكر من خلالها، وذلك كما أثبت ذلك عمانوئيل كانت وغيره من فلاسفة العلم ونظرية المعرفة. فمنطق أرسطو الصوري مثلا كان هو المحدد لطريقة عمل العقل في العصور الوسطى الأوروبية، وهي الطريقة التي تقوم على مقدمات معينة لا بد أن تقود إلى نتائج معينة، ولا وجود ل«الحقيقة» خارج هذا النمط من التفكير، أو برمجة العقل وفق مسلمات أولية لا بد منها. وفي تاريخنا العربي الإسلامي، كان كتاب «الرسالة» للإمام الشافعي مثلا هو المحدد لطريقة عمل العقل المسلم طوال القرون اللاحقة، وهو عقل يقوم على «القياس»، أي قياس فرع حادث بأصل سابق ثابت، وبمثل ما جمد منطق أرسطو العقل الأوروبي طوال ألف عام من السنين على سكولاستيكية (مدرسية) عقيمة تقوم على تكرار إنتاج معرفة لا علاقة لها بواقع الحال، كان قياس الشافعي هو القيد الرئيس الذي كبل العقل العربي الإسلامي طوال قرون ماضية، ولهذه اللحظة مع انفراجات لم تفلح كثيرا في تحرير العقل العربي الإسلامي من قيوده. خلاصة القول هي أن العقل في النهاية عبارة عن أداة تمارس عملها وفق الآليات والقواعد التي توضع لها، وعندما تتحول هذه الآليات والقواعد إلى عقل بذاتها، فإن العقل ينتفي في هذه الحالة، ويكون الجمود هو المآل، كما حدث في التاريخ الأوروبي قبل بزوغ العقل الحديث، وكما يحاول بعض الفلاسفة في الغرب التعامل مع عقل الحداثة على أنه فضاء مغلق قد اكتملت أركانه، أو كما هو الحال في واقعنا العربي الإسلامي حتى هذه اللحظة. فالعقل مجردا، إن صحت هذه التسمية، لا يكون عقلا إلا حين يُنظر إلى آليات عمله وقواعد فعله نظرة نقدية فاحصة على الدوام، وهنا يكمن سر العقل كقوة دافعة في التاريخ الحضاري للإنسان على هذه الأرض. فقوة العقل لا تكمن بمجرد وجوده، أو بقدرة سحرية فيه، بقدر ما تكمن في نقده لذاته على الدوام، وتغيير آليات عمله حين تصبح هذه الآليات غير قادرة على إعطاء إجابات لأسئلة مستجدة، والأسئلة الجديدة يطرحها الوجود في كل لحظة من لحظاته. من هنا نجد أن التطور التاريخي للإنسان، وقفزاته في سلم الحضارة، لم يرتبط يوما بنظام معرفة معين لا نظام غيره، ولا بآليات عقل لا يمكن الوصول إلى «الحقيقة» بغيرها، بقدر ما أنه يتلخص في تغيير العقل المستمر لآلياته، من خلال فضاء مفتوح من النقد وإعادة التفكير بالذات، أي تفكير العقل بذاته على الدوام. فلو لم تتم إعادة النظر بقيود أرسطو للعقل، حين قيده بمنطقه الصوري فقط، لما كان للعصور الحديثة أن تلج تاريخ الإنسان، ولما كان للمنطق التجريبي أن يكون هو المشكل لآليات العقل الحديث، الذي أنتج في النهاية كل ما نراه من إنجازات إنسانية في كل مجال، وهي آليات يجب أن لا تكون نهائية، فآفة العقل القيد، وإلا وقعنا في معضلة «تصنيم» الحداثة بوصفها نموذجا جاهزا. «الانقطاع» وليس «التراكم» هو في النهاية من يحدد قفزات الإنسان في التاريخ وصناعة المعرفة المتجددة. التراكم المعرفي الأرسطوي تراكم على مدى ألف عام من الزمان، ولكنه في النهاية لم يغير شيئا من الحال في أوروبا، إذ بقي الإنسان هو ذات الإنسان منذ القرن الخامس الميلادي حتى القرن الخامس عشر، حين حدث الانقطاع المعرفي مع قيود أرسطو على العقل، فكانت الحداثة والمعاصرة. وفي عالمنا العربي والإسلامي، ما زال قياس الشافعي مهيمنا، إلا في ثغرات هنا وهناك، ولذلك نجد أنفسنا في عالم لا نعرفه ولا يعرفنا، وما زلنا نعيش في زمن الشافعي عقليا وثقافيا، رغم أننا جزء من عالم حديث نمارسه سلوكا ونرفضه عقلا، وهنا تكمن مأساتنا، أو لنقل معضلتنا الحضارية. وإذا أردنا أن نضرب مثلا غير أوروبي في مسألة القطيعة المعرفية هذه، فإني أظن أن الإسلام في علاقته مع ما قبله، وكذلك الميجي في اليابان، خير مثالين في هذا المجال. فالإسلام، رغم أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، إلا أنه جاء أيضا «ليجُبّ ما قبله»، وهنا تكمن ثورته الفكرية والمعرفية قبل ثورته الاجتماعية، وما كان للعرب أن يؤسسوا حضارة إنسانية عظيمة لولا هذا «الجب». أما الميجي، فقد أحدثوا قطيعة تاريخية كاملة مع كل التراث الفكري الياباني، وبذلك انطلقت اليابان الحديثة. صحيح أن الإسلام والميجي استخدما قيما قديمة لبعث روح جديدة، ولكن هذا يشكل انقطاعا بحد ذاته، وفي الانقطاع يكمن معنى التاريخ، وللحديث بقية.