نودعك أيها الشهر الكريم ونحن في شوق إلى عودتك، نودعك وفي سويداء القلب عشق المحبين، واطمئنان الواثقين، وأمل الراجين، نودعك والدموع تنهمر على فراقك والأفئدة تستعجل للقائك، والأبصار ترنو إلى مولد هلالك في العام القادم، وتترقب مقدمك لتسعد بك، نودعك بعد أن حللت ضيفاً كريماً لمدة ثلاثين يوماً، كانت أيامها صياماً، ولياليها قياماً، متعتنا فيها التلاوة، وسماع الحديث صحيح الرواية. كانت لك اليد الطولى في التذكير بصلة الرحم، ودفع الزكاة والصدقة وبر الوالدين، والشفقة على الفقراء والمساكين والدفع إلى المزيد من التكافل الاجتماعي والتزاور والتآنس. نودعك وقد امتلأت القلوب بحبك، وأينع الشجر ثمراً طيباً بإذن الله، فلك حب يفوق الوصف، وهيام تزهو به النفس، فهيهات أن نقوى على فراقك لولا يقيننا أن الدنيا أيام تمر ومعها يذهب العمر، فيكون المآل، وهناك يحصد كل منا ما زرع، وما يأخذ وما يدع. نودعك، ونحن متضرعين إلى الباري أن يكون صيامنا مقبولاً، وزللنا مغفوراً، وتجارتنا رابحة لن تبور، وأن يكون عملنا لوجه الله خالصاً، وأن يعفو الله عن زللنا واجتهادنا إن كان نافعاً، وأن يرحمنا برحمته، ويسبغ علينا نعمائه وفضله. نودعك أيها الشهر الكريم، ولعفوك آملين، وفي كرمك طامعين وكيف لا، وأنت العفوّ الكريم. ما أشد حزننا على فراقك، والله أعلم بأحوالنا بعد ذهابك، فنحن نعلم ضعفنا وفرط تقصيرنا، فملذات الدنيا تحيط بنا، ودوافع النفس تدفعنا، لكن زادك الإيماني ربما يذكرنا فنبتعد، ويرشدنا إلى الخير فنجتهد، فنربي ذاتنا على التقوى ونجبر أجسادنا على أن تقوى، فالذات يغريها الشيطان والجسد يهفو إلى حب الملذات، ولا سلاح يهزم تلك المغريات غير الإيمان، وموسم الإيمان هو شهر رمضان، فمن استطاع أن يستزيد فعليه أن يملأ وعاءه، ويستعد للصراع مع أعدائه. نحن أيها الشهر الكريم قد غيرنا في مواعيد منامنا فاخترنا موعد نوم الليل أو هجرناه، وجعلنا جزءاً من النهار وقت نوم وقيلولة، ولِمَ لا ونحن نسعى أن نستثمر ليلك في القيام، ونهارك في الصيام، لكن ذلك الأمر ليس قائماً في سائر بلاد المسلمين. ففي الصين ينامون في مواعيدهم، وكذا عند أغلب الناس في المغرب الشقيق عدا العشر الأواخر من رمضان، ولكن لياليك الجميلة لها حلتها المتميزة، وزينتها الزاهية، ورونقها الجميل. أيها الشهر الكريم، الوداع أقسى اللحظات على القلب، وأصعب المواقف على المرء، لكنها سنن الله في خلقه، راجين من العلي القدير أن يقبل منا ومن سائر المسلمين، وأن يجعل هذا الشهر الكريم شهر غفران، وعتق من النيران، ورحمة بالعباد ونصر للمسلمين، وعون لكل صادق أمين، وأن يهدي فيه كل ضال، وأن يقبل دعاءنا، ورجاءنا، وأن يشفي مرضانا، ويرحم موتانا، ويصلح أحوالنا، ويعفو عن مسيئنا إنه جواد كريم.