في صيف 2005 وتحديدا في صباح يوم الخميس 7 يوليو وردت على جوالي الكثير من الاتصالات وأنا داخل الصف في أحد معاهد اللغة الإنجليزية في الجنوب البريطاني. أغلب الاتصالات كانت من الأهل في السعودية. اتصالات للاطمئنان عليّ بعد خبر تفجيرات لندن الشهيرة. طمأنت المتصلين وذهبت للبيت لأطلع على الأخبار عن قرب. قابلتني السيدة جانيت، صاحبة المنزل عند المدخل وطلبت مني الحديث لبعض الوقت. قالت وهي في حالة شديدة من الارتباك ودماء القتلى البريطانيين لا تزال ساخنة. اطمئن يا عبدالله. أنا أعرفك وأعلم أن لا علاقة لك بالإرهاب وأعلم أنك تدينه، وأعلم أن تعاملنا معك لن يتغيّر بسبب هذه الأحداث ولن نلومك أبدا على مثل هذه التصرفات التي نعلم أن الناس الطبيعيين يدينونها في كل مكان.. ودخلت معي في حديث مطول عن ذكرياتها مع الإرهاب الأيرلندي لكنها توقفت فجأة وقالت هل تعلم الفرق بين الإرهاب الأيرلندي وإرهاب القاعدة؟ قالت كان الجيش الأيرلندي يعلن قبل فترة بسيطة أنه سيفجر المكان الفلاني..يعطي الناس فرصة للهرب قبل التفجير..أما القاعدة فهدفها تفجير الناس قبل أي شيء آخر... وفي ذات الفترة كنت أتجول في حديقة الهايدبارك في زاوية الحديث الحر وأستمع بكثير من المتعة لعدد من المتحدثين الذين يطرحون أفكارهم على المارّة ويدخلون معهم في حوارات مطولة وأحيانا عنيفة ولكن دائما دون تجاوز حدود الكلام، وحده متحدث عربي كان يكشف بعض فضائح صدام حسين ووصلت الأمور بينه وبين بعض مستمعيه إلى التشابك بالأيدي في تعبير دقيق عن حال الثقافة العربية. الشاهد هنا أن أحد المتحدثين الإنجليز كان ينتقد بحدة سياسة جورج بوش في العالم وبالصدفة مرّت عائلة أمريكية مكونة من أم وأطفالها توقفوا للاستماع قليلا، سأل المتحدث الأم: سيدتي هل أنت أمريكية، قالت: نعم. قال: ما هو شعورك وأنتِ أمريكية خارج أمريكا من سياسة البيت الأبيض؟ تنهدت قليلا ونظرت في عينيه وقالت: اليوم أشعر بالخجل لأني أمريكية...وذهبت في طريقها. وفي الذكرى الثامنة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر التقيت هنا في منطقة واشنطن بعدد من الطلاب العرب وكانت المناسبة محور الأحاديث. الكثير من الشباب كان محتقنا من مجرد ذكر الحدث في قاعة الدرس أو التذكير بهذه المأساة. الكثير كانوا يشعرون بالتوتر من هذا الموضوع وكان مجرد النقاش حوله يسبب أزمة لهم. طبعا الفكرة السائدة كانت أن المسلمين لا علاقة لهم بهذه الحادثة وأنها من صناعة الصهيونية العالمية وأن الشباب السعوديين الذين شاركوا في الحادثة لا علاقة لهم بالموضوع وربما وصلت في عدد من الأحداث إلى شيء قريب من تأييد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصلا. في كل سنة، تقوم نشاطات كبيرة تمثل اعتذارات تقدمها الشعوب عن أخطاء ارتكبتها في التاريخ. سنويا يعتذر الشعب الأمريكي لليابانيين على جريمة القنبلة النووية في هوريشيما. وفي المقابل تعتذر اليابان سنويا عن الجرائم التي ارتكبتها في حق دول شرق آسيا. وسنويا يعتذر عدد كبير من الفرنسيين للجزائر عن جرائم حرب الجزائر. والكنيسة تعتذر بين فترة وأخرى عن الجرائم التي ارتكبتها في حق العلم والفلاسفة. الأستراليون أيضا يعتذرون للسكان الأصليين عن ما ارتكبوه في حقهم من جرائم. واعتذرت جهات أوروبية كثيرة عن الإساءات التي نالت المسلمين في الصحافة الأوروبية. تأتي الأمثلة السابقة في سياق واحد ما عدا الأمثلة العربية. كل السلوكيات السابقة سلوكيات تشعر بالخجل من القتل والتدمير ما عدا موقفا واحدا. لا يعرف إلا تصرفا واحدا هو يرفض أن يعتذر. يرفض أن يعترف بالخطأ. سلوك مرضي مختلط ومعقد. سلوك نتج عن ثقافة لا تجيد الحكم بناء على مقياس الحق والباطل، لا تعرف إلا مقياس الأنا والآخر. أدين ما يضرني أنا فقط ولتذهب البقية للجحيم. قد يقول البعض إن المسلمين غير مسؤولين عن أحداث 11 سبتمبر وإنه حتى لو كان المسلمون هم من فعلوها فلا يحق لنا تحميل المسؤولية للجميع. هذه حجة تردد كثيرا ولكنني سأسأل: هل نعرف اعتذارا شعبيا واحدا في تاريخنا القديم أو الحديث؟ هل يعتذر العراقيون للكويتيين؟ أم هل يعتذر المصريون لليمنيين؟ أم يعتذر المسلمون من الجرائم التي ارتكبوها في عهد الإمبراطوريات الإسلامية؟ لا شيء من هذا يحدث. تتوارى الكثير من الجرائم والدماء خلف نظرة التقديس للذات. الذات التي لا ترى عيوبها ذات مريضة ذات تبحث عن الأعذار التي تعفيها من المسؤولية، تختلق هذه الأعذار، تختفي خلفها ونحن نعلم أن قدرة الإنسان على خلق المبررات غير محدودة. يستطيع الأمريكيون اليوم أن يقولوا إن قرار رمي القنبلة النووية كان رأي الحكومة والشعب غير مسؤول عنه، كما يمكن أن تقول السائحة الأمريكية نفس الكلام. الأستراليون أيضا يمكن أن يقولوا إنهم جاؤوا بالعلم والحضارة للسكان الأصليين. واليابانيون يمكن أن يقولوا إنهم غزوا العالم من أجل نشر العدالة والحق لا من أجل سلب خيرات الشعوب. هذه حجج جاهزة لمن أراد أن يستخدمها. ولكن وحده الموقف الإنساني الذي يجعل الفرد يدين كل الجرائم على البشر مهما كان مبررها، هذا الموقف وحده هو الموقف الشجاع. الموقف الحق الذي يتحمل الإنسان فيه مسؤولياته ويجعله يدين كل اعتداء على أي إنسان في أي مكان أو زمان. هذا الموقف الذي سيجعل المسلم الذي يدين غزو العراق واجتياح غزة وأفغانستان يدين 11 سبتمبر أيضا ويدين كل حادثة في تاريخه تم فيها ارتكاب لجرائم ضد الشعوب أو الأفراد. وحده هذا الموقف الذي سيجعله يقف أمام ذاته ليدينها. فهي ذات ليست فوق الخطأ أو الجرم. يبدو هذا الموقف اليوم بعيد المنال وعصيا عن التحقيق وسط هذه الحالة المرضية التي تتراكم يوميا في الثقافات الضعيفة المريضة. لكن هذا أيضا يعني أن نقد الذات هو حل أزمتنا الحقيقي ولا بد للنقد الحقيقي أن يؤلم.