رمضان ليس شهراً عادياً؛ لأن الله فرض علينا صيامه، ولأن المسلم يكثر فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وهو شهر ليس عادياً لأننا نكثر فيه الصدقات، وصلة الرحم، والتواص مع من نحب، وربما يتجاوز بعضنا عن أخطاء الغير، ويغض الطرف، عما يبدو منهم، ويعفو عن هفواتهم، ولعل البعض يرحم الضعيف، ويحنو على المحتاج، ويرفق بالشيخ الكبير، والطفل الصغير؛ لذا فهو شهر مكارم أخلاق يسعى المرء فيه ما وسعه إلى أن يكسب ما أمكنه كسبه لدنياه وآخرته، فما أسعد من فاز فيه وما أشقى من خسر الكسب منه. ولهذا الشهر الكريم طعم خاص من الناحية الاجتماعية؛ ففيه يكثر اللقاء، وتتجمع الأسر، ويلهو الصبيان، ويكثر النساء من القيل والقال بما هو مفيد إن شاء الله، وأيضاً تتنوع الموائد، وتتباين المطاعم والمشارب ويجتهد الناس في ابتداع أنواع جديدة من المأكولات، جلها مضر بالصحة وقليل منها مفيد، لكن الناس يملؤون البطون بما لذ وطاب وليس ما حسن وأفاد، لكنها النفس البشرية تسعى لنيل ما تشتهيه بغض النظر عن الفائدة المرجوة، وهذا يكاد ينطبق في السلوك الاقتصادي والإداري والأخلاقي، إلا من عصم ربي. صمت في المملكة أوقاتاً كانت المائدة فيها تبدأ بالتمر إذا لم يكن موسم رطب، وشيء من الماء ومشروب التوت، وبعد صلاة المغرب يكون رزاً ولحماً، وما بجانبهما من مأكولات أخرى ثقيلة ودسمة، فتطور بنا الحال فأصبحنا نأخذ نصيبا من التمر والقهوة قبل الصلاة دون شراب توت، وبعد الصلاة قليل من المعجنات نكتفي بأكلها رغم تنوع المأكولات، ولا أعلم لهذا التحول في السلوك الغذائي سببا سوى تغير في المفهوم الغذائي خشية ظلم المعدة بتحميلها ما لم تحتمل، أو أن التقدم في العمر جعلنا أكثر تحوطا. ورغم اختلاف أماكن الصوم والإفطار التي قضيتها، فإن للعاملات في المنزل أثر كبير في تدبير النصيب من نوعية الغذاء وليس كميته؛ فكمية الغذاء في هذا الشهر الكريم أحسبها كثيرة والحمد لله عند جميع سكان المملكة وعندي. ففي الصين مثلاً كانت المائدة بعد الإفطار وصلاة المغرب لا تخلو من (النودلز) والشوربة الصينية رغم أنني لست للنودلز من المحبين، لكن سيدات المطبخ الصينيات يلزمننا بأن نأكل ما يشتهين لا ما نشتهي، وإضافة إلى ذلك فإن (البوف) وهو مليء بالزيت واللحم موضوع على المائدة، ومع الصوم والجوع يمد المرء يده إلى تلك الأكلات الدسمة ويندم بعد أن يأكل ويصبح في تأنيب ضمير مما فعل. ولقد قضيت بعض أيام رمضانية في المغرب الشقيق وما زلت أقضي، والموائد المغربية شهية لذيذة الطعم، لكن الزيت، وكميات السكر تجعل المرء يحذر التفريط ثم الندم، لكن مع الوقت ثم تدريبهن على أن تكون كمية الزيت صفرا، وأن تمنع المقليات عن الموائد، وأن يتم الإكثار من الخضار، تم الأمر، لكن لي فقط، أما ما عداي فظل الأمر على ما كان عيه. وما بعد الإفطار وصلاة العشاء تختلف الحياة الاجتماعية؛ ففي الرياض تكثر الزيارات واللقاءات ولعب الورق وربما كرة القدم عند الكثير من الناس، كما تطيب المجالس وتتزين بأنواع المكسرات والمشروبات من شاي وقهوة وعصائر، وفي الغالب فإن الكثير من الناس يمضون ليلهم دون نوم حتى يقضوا صلاة الفجر، وهذا أمر معتاد. بينما في الصين يكون النوم مبكراً والاستيقاظ للصلاة ومن ثم النوم لساعة أو ساعتين، وفي ليالي رمضان لا نجد اختلافا عنها في غيره، كما أن نهاره يحفل بالعمل عند المسلمين وغير المسلمين، ولا تحس بأن نهاره يختلف عن غيره، وهو ما لا تجده في المملكة؛ حيث يبدأ الناس أعمالهم متأخرين، كما أن البعض منهم يكون سريع الغضب متجهم الوجه، كأنه قد أصابه مكروه، بينما كان الأولى به أن يكون فرحاً سعيداً هادئ الطبع، متسامحاً بغض الطرف عن هفوات غيره. وفي المغرب ينام الناس في رمضان بعد أن يمتد بهم السمر قليلاً، فهم في الغالب لا يتجاوزون منتصف الليل، بينما في أيامهم المعتادة ينامون مبكرين ولا يتجاوزون الساعة الحادية عشرة مساء في الغالب، ويبدؤون عملهم مبكرين كما اعتادوا عليه دون تغيير، ولقد تابعت في التلفاز مباريات كرة القدم التي تقام عصراً مع أن اللاعبين صائمون، وهكذا يعينهم الله على ذلك، وعلينا ألا ننسى أن الطقس في المغرب قليل الحرارة في معظم مناطقه مقارنة بالمملكة. إن هذا الشهر الكريم له طعم خاص ومتعة خاصة لدى المرء أينما حل، وله مكانة خاصة في قلوب المسلمين، يفرحون بمقدمه ويسعدون بصيامه وقيامه، فأهلا به ضيفاً كريماً عزيزاً على الأفئدة، وأعاننا الله على صيامه وقيامه، وأعاده علينا وعلى المسلمين أعواماً عديدة ونحن نرفل بالصحة والعافية.