غازي القصيبي * الوطن السعودية أرجو أن أكون قد استدرجتكم، معشر القراء والقارئات، بهذا العنوان المثير إلى قراءة المقال، والعنوان لم يجئ من فراغ وإنما من حقيقة تكاد تكون علمية: "كل ممنوع مرغوب"، وتجربتي الشخصية، مثل تجربة الكتاب كلهم، تؤكد أن أفضل دعاية لأي كتاب هي منعه "بمعرفة الرقيب". (بالمناسبة، كانت كل رسائلنا البريدية الشخصية أيام الدراسة في القاهرة تجيئنا مفتوحة "بمعرفة الرقيب"!). حسناً! ما دمتم قد بدأتم القراءة يمكنني أن أنتقل معكم خطوة إلى الأمام فأقول إن الكتاب الذي أدعو إلى منعه من تأليف الدكتور أحمد العيسى وعنوانه "إصلاح التعليم في السعودية بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية". بلا مبالغة أعتبر هذا الكتاب الصغير أهم كتاب صدر في الشأن العام خلال العقدين الأخيرين (وقبل أن يتحذلق المتحذلقون أقول إنه لم تتح لي معرفة المؤلف ولا أشعر إزاءه بعاطفة من أي نوع تدعو إلى التحيز له أو عليه ). تجيء خطورة الكتاب – وخطره ! – من أنه يتعلق بأكثر القضايا خطراً في مجتمعنا، وفي كل مجتمع. ينعقد الإجماع بين الباحثين التنمويين على أن التعليم هو مفتاح التنمية، وبالتالي مفتاح أي تقدم يمكن أن يطمح إليه شعب من الشعوب. وتؤكد الشواهد التاريخية أنه لم تتحقق نهضة في أي دولة إلا وكان منطلقها النظام التعليمي. ولو استعرضنا المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع السعودي اليوم، الفقر والبطالة وضعف الإنتاجية وترهل الأداء في القطاعين العام والخاص، لوجدناها تنبع مباشرة من النظام التعليمي، ويستحيل حلها دون إصلاحات حقيقية في هذا النظام. على أن قضية التعليم، بالإضافة إلى خطرها البالغ، بالغة الحساسية، يصعب إن لم يستحل، فصل النظام التعليمي عن البيئة التي يولد ويتنفس فيها: من العسير تصور نظام تعليمي يطور المهارات الصناعية في مجتمع زراعي بدائي، ومن المستحيل أن يستطيع مجتمع تملأ عقوله الخرافات إبداع نظام تعليمي معاصر يشجع العلم وينبذ الخرافة، هذا الارتباط الوثيق بين النظام التعليمي وبعض القيم السائدة في المجتمع هو الذي يخلق في كثير من الأذهان الانطباع أن أي محاولة لتغيير نظام التعليم هي عدوان على ثوابت المجتمع، وهذا الارتباط هو الذي يشكل الفارق الهائل بين إعادة هيكلة قطاع الكهرباء أو النقل أو الصحة وإعادة هيكلة التعليم. على أن حساسية القضية يجب ألا تمنع الباحثين الراغبين في الإصلاح من ارتياد الطريق المفروش بالأشواك، هذا ما فعله مؤلف الكتاب، بموضوعية صارمة، ومنهجية راقية، وأسلوب معقم، الأمر الذي جعل كتابه مختلفاً، شكلاً ومضموناً وغاية، عن الكتابات المؤدلجة التي تحمل دفاعاً أعمى عن كل ما هو قائم، وما يقابلها من كتابات مؤدلجة تريد تغييراً أعمى لكل ما هو قائم. أدرك المؤلف أن التغيير المطلوب لا يجيء من مواقف متشنجة مبنية على عواطف هوجاء بل يأتي من التحليل المنصف، الواعي بالأهداف المنشودة من التغيير، وبالعقبات التي تقف في وجه التغيير . يعزو المؤلف فشل المحاولات الجادة التي استهدفت إصلاح نظام التعليم في الماضي إلى عوامل ثلاثة، العامل الأول هو غياب رؤية سياسية تبلور استراتيجية وطنية واضحة للنظام التعليمي. يقول المؤلف: في ظل عدم وضوح الرؤية السياسية التي تتبناها القيادة العليا في موضوع الإصلاح، وفي ظل مناخ التأزم الثقافي السائد في الساحة الفكرية التي تسودها الاتهامات المتبادلة بين تيارات الفكر .. تصبح أعمال تلك اللجان (المكلفة بالإصلاح) مجرد ساحة للصراع الفكري الخفي.. حتى يصل أعضاء تلك اللجان – جميعهم – إلى طريق مسدود (ص 80). على هذه الصخرة تحطمت نوايا طيبة كثيرة! ويرى المؤلف أن سبب الفشل الثاني هو توجس الثقافة الدينية من محاولات التغيير. أدى هذا التوجس إلى: تشكيل "لوبيات" ضغط كبيرة وهائلة ضد عملية "إصلاح التعليم" والقائمين عليها والمنادين بها، سواء كانوا من المسؤولين في مؤسسات الدولة أو من المفكرين والكتاب.. إن هذا يؤدي في أحيان كثيرة إلى تردد القيادة العليا في حسم قرارات تطوير التعليم كما يؤدي في أحيان أخرى إلى إفراغ مشاريع "إصلاح التعليم" من مضمونها الحقيقي (ص:82)، وعلى هذه الصخرة الثانية تبعثرت جهود مخلصة كثيرة! ويرى المؤلف أن السبب الثالث في الفشل يعود إلى عجز الإدارة المركزية عن إحداث التغيير المطلوب: في ظل نظام متشبع بالمركزية إلى حد متناه في أجهزة الدولة ومؤسساتها كلها، فإن الجهاز المركزي لوزارة التربية والتعليم يبقى هو الأكثر مركزية وبيروقراطية، والأقل قدرة على الحركة والتفاعل مع مشاريع "التطوير" وذلك بسبب ضخامته وتعدد مستويات القرار الإداري فيه وتشعب اهتماماته،(ص95). وعلى هذه الصخرة الثالثة تمزقت طموحات عدد من الوزراء المتحمسين! وبعد: أدعو الصديق الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود وزير التربية والتعليم، وهو المثقف اللامع الذي قاد عبر السنين عدداً لا يحصى من "ورش العمل" وملتقيات "العصف الذهني"، أدعوه إلى جعل هذا الكتاب موضوعاً لأكثر من "ورشة" وملتقى "عصف"، وأدعو نائبه الصديق فيصل المعمر، الذي يؤمن بأهمية الحوار ويتمتع بتجربة ثرية فيه، أدعوه إلى تبني حوار شامل حول طروحات المؤلف. إنني أعتقد جازماً أن الفرصة مهيأة الآن كما لم تكن مهيأة، قط، لإصلاح حقيقي يخرج النظام التعليمي من مأزقه ولا يمس ثوابت الوطن. إن الأمل، بعد الله، معقود على هذين الصديقين العزيزين، ولهما أقول: هذا الكتاب ذخيرة لا تقدر بثمن في ملحمة الإصلاح القادم.