في ظل تأزم ثقافي عام للساحة الفكرية بين تيارات «تدعي الأصالة» وأخرى «تنادي بالحداثة» والتخلص من قيود تراثية وهمية تقوم بنقد قاس «لما يسمّى بالثوابت الدينية»... ومع غياب قنوات الحوار التي يمكن من خلالها كسر حدة الخلاف أصبح النظام التعليمي أحد ميادين الصراع على النفوذ بدلاً من أن يكون أحد ميادين الحوار! قد يكون كتاب «إصلاح التعليم في السعودية»، - بخلاف المقالات والأوراق والشفهيات التي طرحت من قبل حول الموضوع - هو أكثر الأغلفة التي تناولت هذا الموضوع «إصلاح التعليم» إثارة وإلفاتاً للنظر؛ خصوصاً وأن مطالب مؤلفه الدكتور أحمد العيسى بلغت مستواها الخطابي الأعلى، متمثلة في التصريح المباشر بضرورة إلغاء وثيقة التعليم الحالية، ووضع وثيقة بديلة لها، والتأكيد في الوقت نفسه على عجز الإدارة التعليمية عن الانتقال إلى طور الإصلاح الحقيقي بدلاً من طور زيادة عدد الدارسين والحاصلين على الشهادة، والمطالبة بتبديل الرؤية تجاه صيغة التعليم التي اشتملت عليها وثيقة التعليم، للحدّ من أثر الثقافة الإسلامية المحلية وتوجساتها من التعليم سواء في موقفها من وظيفة العلوم التجريبية والتطبيقية، أو من جهة موقفها المعادي - بحسب المؤلف - للمدارس الأجنبية وانضمامها إلى عائلة التعليم في المملكة العربية السعودية. ولا يتردد العيسى في كتابه «إصلاح التعليم في السعودية» في الجهر بأن النظام التعليمي في السعودية «وفّر بيئة مساندة للتطرف»، وأنه «المتهم الرئيس في إنتاج ظاهرة التطرف والعنف الذي يرتكب باسم الجهاد»، واستشهد على ذلك بما أسفرت عنه الأحداث الإرهابية التي ضربت قلب الوطن وأطرافه، وفي بلدان أخرى من شباب سعوديين معظمهم ممن تأثروا بفكر القاعدة والتنظيمات الدينية الحركية الجهادية. وجاء في ثنايا الكتاب: «انه بالرغم من تعدد عوامل ظاهرة الإرهاب إلا أنه «لا يمكن أن نبرّئ النظام التعليمي بمؤسساته وبرامجه ودروسه ومناهجه وأنشطته الصفية واللاصفية كل التبرئة تماماً، من توفير بيئة مساندة لأفكار التطرف من خلال بعض الأنشطة اللاصفية والبرامج الخفية». كما انتقد العيسى اتهام الثقافة الدينية للإصلاح التعليمي بأنه «مطروح من قوى سياسية خارجية». وأنحى باللائمة على الموقف السلبي من إنشاء المدارس العالمية في السعودية، واعتباره امتداداً للمدارس التبشيرية النصرانية في فترة استعمار الدول العربية، وضرب لذلك مثالاً بكتاب عضو هيئة كبار العلماء المتوفى بكر أبو زيد، الذي اعتبر المدارس العالمية أجنبية استعمارية. يصف مدير جامعة اليمامة الدكتور أحمد العيسى كتابه بأنه ليس كتاباً علمياً توثيقياً للنظام التعليمي في المملكة العربية، كما أنه لا يقوم برصد علمي توثيقي لمشاريع إصلاح أو تطوير التعليم. لكنه يلفت إلى أنه قراءة نقدية لأسباب إخفاق النظام التعليمي في المملكة، دون أن يوضح ما إذا كانت هذه القراءة النقدية يمكن تقديمها على أسس غير علمية كما يشير إليه إقراره في الفقرة السابقة. وفي إهداء الكتاب يستشهد بعبارة الشاعر الإنكليزي وليم بتلر ييتس القائلة إن «التعليم ليس مشروعاً لملء جردل، وإنما لإشعال حريق». ويركز من البدء على أن الإصلاح التعليمي في السعودية يعاني من ثلاثة أحجار كالأثافي في الذاكرة العربية القديمة، وهذه الأثافي الثلاث هي غياب الرؤية السياسية، وتوجس الثقافة الدينية، وعجز الإدارة التربوية. الكتاب «بحسب المؤلف» كتاب فكري ونقدي، كتبه بلغة عاطفية نابعة من القلب، صادقة في مباشرتها، تغلفها نظرة متشائمة تتصادم مع الواقع، ولكنها في الوقت نفسه تستند إلى العقل والوعي الشاملين، ولا تهتم بمعايير التاريخ أو الجغرافيا أو الأرقام أو ما له صلة بدقة الإحصاءات المسبقة. ويحمل في ثناياه كثيراً من البوح والشكوى والنقد الذي قد يبدو هدماً لما قد يعتبره البعض مقدساً ونهائياً وثابتاً غير قابل للتطوير، كما يلفت العيسى من خلال مقدمته إلى أن بعض الأفكار التي يحتويها عن التطوير قد يصلح بعضها «حتى للعقد الأخير من القرن ال21». وينطلق الكتاب من فكرة أن «ضعف النظام التعليمي في المملكة» هو مسلمة إجماعية، ولذلك فهو ينصح من يقرأه وهو لا يقرّ بهذه المسلمة بعدم قراءة الكتاب. لكنه يعود بعد ذلك في الفصل التالي ليقرر أن مسيرة التعليم في المملكة العربية السعودية قد حققت قفزات مهمة على صعيد الانتشار، بتوفير فرص التعليم لأفراد المجتمع جميعهم، في المدن الكبيرة وفي المحافظات والمراكز الصغيرة والقرى الريفية، وعلى المستويات كافة بدءاً من التعليم العام مروراً بالتعليم الفني والمهني، وصولاً إلى التعليم العالي، ووصل التعليم إلى مناطق المملكة، مدنها وقراها عامة، في الصحاري والسهول والجبال والشواطئ، وأصبح افتتاح مزيد من المدارس والمعاهد والكليات المتوسطة والجامعات حديثاً مكروراً في الصحافة ووسائل الإعلام. حتى إن ثلث السكان يتجهون كل صباح إلى مقاعد التعليم. ما أدى إلى محو الأمية بين السكان وانخفاضها من 60 إلى 12 في المئة. لكن العيسى يعود وينتقد انصباب الاهتمام على النمو والتوسع في فرص التعليم لأفراد المجتمع كافة، ويؤكد أن هذا الاهتمام بالانتشار الأفقي لم يواكبه تطور حقيقي في الفكر التربوي والتعليمي، معللاً ذلك بأن هوية النظام التعليمي وفلسفته الأساسية الداخلية تتشتت في اتجاهات عدة نتيجة لسنوات طويلة من التعديل والتطوير والتبديل. وتاهت فلسفة التربية في النظام التعليمي السعودي ولم تستطع إيجاد الصيغة السحرية للمواءمة بين قيم المجتمع وثقافته، وبين الانطلاقة للعالمية عبر الانفتاح الثقافي والعلمي والتكيف مع المتغيرات السريعة التي تحدث من حولنا واستيعابها، ومن ثم الانطلاق نحو الاندماج والمشاركة مع العالم في منافسة إيجابية وشريفة نحو التقدم الحضاري والعلمي والنمو الاقتصادي والاستقرار السياسي. فقدان الهوية ويحكي العيسى سيناريو فقدان الفكر التعليمي لهويته في المملكة، مصوراً أن فقدان الهوية إنما جاء في ظل تأزم ثقافي عام، للساحة الفكرية، بين تيارات «تدعي الأصالة» وأخرى «تنادي بالحداثة» والتخلص من قيود تراثية وهمية تقوم بنقد قاس «لما يسمى بالثوابت الدينية». ومع غياب قنوات الحوار التي يمكن من خلالها كسر حدة الخلاف أصبح النظام التعليمي أحد ميادين الصراع على النفوذ بدلاً من أن يكون أحد ميادين الحوار. ومع ذلك فإن العيسى يعود من هجومه القوي ليستدرك بأن مناهج التعليم والمقررات الدراسية نالت كثيراً من النقد وقليلاً من التحليل العقلاني الهادئ، منتقداً كثيراً من الملتزمين بصرامة النظام التعليمي في تركيزهم على دور الكتاب المدرسي وفرض تعليمه على الطلاب والمدرسين، ومعترضاً على تقديم المواضيع في المواد الدراسية باعتبار كل مادة علماً مستقلاً بذاته، وموضحاً كيف أن التعليم يهتم اهتماماً خاصاً بالعلوم الشرعية واللغة العربية على حساب العلوم الطبيعية والرياضيات والعلوم الاجتماعية. واصفاً التعليم الديني بأنه المستحوذ على نصيب الأسد في أولويات النظام التعليمي السعودي، على رغم محاولات التطوير بإعطاء العلوم العقلية والأساسية بعض الأهمية. ويشدد العيسى في مؤلفه المثير على «طغيان تدريس المقررات الشرعية» واعتماده على الحفظ والتلقين والتكرار، والتركيز على العقيدة والفروض والتشريع والحلال والحرام بشكل قاطع، ما ينتج عنه «بنظر المؤلف» فقدان التأثير العميق في نفوس التلاميذ، من خلال غرس التربية الإيمانية التي يجب أن تؤثر في سلوكياتهم. ويرى العيسى أن التعليم الديني المتخصص لا يوفر للطالب فرص تغيير مساره المهني والوظيفي في المستقبل، وذلك لأن المعاهد ودور التحفيظ تقودهم إلى الكليات الشرعية والنظرية ولا تمنحهم فرصاً واسعة في الكليات العلمية الطبيعة والهندسية وكليات الحاسب الآلي والإدارة بسبب ضعف تأهيلهم في العلوم الطبيعية واللغات والرياضيات. ولا يبقى للمتخرجين من التخصصات الشرعية إلا ميدان التعليم ومجالات أخرى محدودة لا يمكنها استيعاب الأعداد الكبيرة من الملتحقين بالتعليم الديني المتخصص. ويتطرق الكتاب بعد ذلك في انتقالات سريعة إلى عدد من القضايا كتعليم المرأة، والتعليم الأهلي، والمدارس الأهلية، متجهاً بعد ذلك إلى محور العلاقة بين المدن الاقتصادية والتعليم، متوصلاً إلى النتيجة التي قررها الكتاب في بدايته وهي: أن النظام التعليمي في المملكة العربية السعودية فشل فشلاً واضحاً على المستوى النوعي، وبالتحديد على مستوى كفاءة المخرجات التعليمية في المستويات كافة، بل إن البعض يرون تأخرها عاماً بعد عام وتزداد الفجوة تباعاً في قدرة هذا النظام على مواجهة تحديات العصر وإنتاج أجيال متمكنة ومنتجة. مستشهداً على ضعف المستوى العلمي بعدد من الإحصاءات التي توصلت إلى أن المتخرجين من التعليم السعودي يفتقدون الكثير من المعارف والمهارات التي تمثل الحد الأدنى لمتطلبات العمل، وأن مخرجات التعليم العالي ضعيفة في المهارات الأساسية العلمية والسلوكية، وأن الجامعة لا تستطيع تحقيق تغير كبير في مستويات الطلاب العلمية. وحول علاقة نظام التعليم بالتخلف الفكري والثقافي والسلوكي يرى المؤلف أن عدم قدرة نظام التعليم على إحداث التأثير الإيجابي في عقول الشباب أدى إلى سهولة اختطافهم من بؤر الانحراف والتطرف الفكري والسلوكي والجريمة والمخدرات والتصرفات غير الأخلاقية والفساد والرشوة وغيرها من الممارسات المرفوضة من المجتمع، وهي تتزايد يوماً بعد يوم في المدن السعودية. الحل المنشود في فصل آخر يتحدث العيسى عن مفهوم إصلاح التعليم، مقدماً له بأنه قضية ليست ثانوية على المستوى الدولي، وأنها الحل المنشود لمشكلات التنمية والنهضة، ومشكلات الفقر والبطالة وضعف النمو الاقتصادي، منوهاً بالمبادرات الدولية، كمبادرة أميركا في منافسة الاتحاد السوفياتي في علوم الفضاء. ومستدركاً في الوقت نفسه بأن أميركا اعتبرت أن محاولة فرض نظام تعليمي على الولاياتالمتحدة يعد عملاً حربياً. منتقلاً بعد ذلك إلى النموذج البريطاني معدداً من خلاله المبادئ التي انطلق منها تطوير التعليم في بريطانيا، ومنه إلى النموذج الماليزي الدولة الإسلامية التي عاشت طفرة اقتصادية وتنمية بشرية لنقل الدولة من بلاد متخلفة اقتصادياً وعلمياً إلى دولة متقدمة قبل عام 2020. وإلى سنغافورة، الدولة التي أصبحت تمثل نموذجاً لسرعة التغيير وتطور التنمية البشرية والنواحي العلمية والتكنولوجية الدقيقة ما أسهم في تحولها الاقتصادي في عقودات الثمانينات والتسعينات. عائداً بعد ذلك إلى المقارنة بين تلك التجارب وتجربة محاولة إصلاح التعليم في السعودية، مستشهداً بالاتفاق الإجماعي على عجز النظام التعليمي، العجز الذي لا تتبعه نقاشات جادة ولا تحديد لأسباب تعثر مشاريع الإصلاح، مع وقوف الجهات المسؤولة عن التعليم مكتوفة الأيدي من دون إطلاق نظام تعليمي قادر على إحداث النهضة الحقيقية في مناحي الحياة ومستوياتها المختلفة. يصل المؤلف بعد ذلك إلى لب الكتاب، وهو التعليل لفشل الإصلاح التعليمي، ممثلاً في غياب الرؤية السياسية والإرادة الحاسمة، وغياب السياسة الجديدة للتعليم، وتوجس الثقافة الدينية من مشاريع إصلاح التعليم، وموقف المتدينين من مناهج التدريس الحديثة، واتهام الثقافة الدينية لإصلاح التعليم بأنه هدف سياسي لقوى خارجية. وعجز الإدارة المركزية عن تغيير بيروقراطية الإصلاح. لافتاً إلى أن القيادة السياسية تحاول من خلال ما يصلها من خطط وبرامج دعم خطط التطوير ومعالجة مواطن الضعف والقصور في النظام التعليمي، لكنه يستدرك بأن هذه الرغبة وهذا الاهتمام لم يتحولا إلى رؤية استراتيجية واضحة حول ماهية النظام التعليمي المراد تطويره في السعودية في بدايات القرن ال21، لكي يتحمل مسؤولياته في إنتاج أجيال متعلمة ومثقفة، مؤكداً ذلك بما سبق الإشارة إليه من غياب السياس الجديدة للتعليم، مؤكداً على أنه منذ صدور وثيقة سياسة التعليم قبل 40 عاماً لم يحصل جديد، لأن تلك الوثيقة تجاوزها الزمن فعلياً، لأنها صدرت في زمن كانت تسود فيه عقيدة الستينات الميلادية، وحاولت ربط كل عنصر من عناصرها بمناهج علمية تسميها إسلامية، لكنها غير موجودة على أرض الواقع وتقف في وجه الاستفادة من علوم العصر وتقنياته وتجارب الشعوب والانفتاح الثقافي والفكري. وواصل العيسى انتقاد الوثيقة الرسمية الأولى للتعليم، التي يرى أنها لم تتغير بعد لكونها ربطت تعليم العلوم الاجتماعية بوجهة النظر الإسلامية، وأوصت بتزويد الطالب بالقدر المناسب من المعلومات الثقافية، وحصرت أهداف البحث العلمي بتطويع العلوم لخدمة الفكرة الإسلامية، وأقحمت التعليم في قضايا سياسية كلية كالتضامن الإسلامي والتأكيد على فريضة الجهاد وإيقاظه في نفوس المتعلمين. الأمر الذي استنتج منه العيسى أن الوثيقة تعبر عن سياسة أمة خائفة على دينها وتراثها وقيمها، ما جعلها تكبل النظام التعليمي برؤية سياسية ايديولوجية أحادية. وانتقد العيسى اتهام ما وصفه بالثقافة الدينية للإصلاح التعليمي بأنه مطروح من قوى سياسية خارجية. وأنحى باللائمة على الموقف السلبي من إنشاء المدارس العالمية، واعتباره امتداداً للمدارس التبشيرية النصرانية في فترة استعمار الدول العربية، وضرب لذلك مثالاً بكتاب عضو هيئة كبار العلماء المتوفى بكر أبو زيد، الذي اعتبر المدارس العالمية الأجنبية استعمارية، وسماها بالبيت المظلم، واعتبر أنها تحل في البلاد أعظم ضربة توجه إليها، بصفتها قاصمة للظهر.