هذا الوصف ليس من عندي، بل ورد في بيان وزعته كتائب عزالدين القسام - التابعة لحماس - الأسبوع الماضي تطالب فيه أتباع الحركة بالضفة الغربية استهداف عناصر السلطة الوطنية بوصفهم جنود احتلال. كان البيان صادرا على خلفية مواجهة حامية بين عناصر مسلحة للقسام وأفراد الأجهزة الأمنية في ذات الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما يلقي خطابا تاريخيا في القاهرة يعلن فيه أن: (أمريكا لن تدير ظهرها لمعاناة الفلسطينيين)، وأن إقامة دولة فلسطينية "هي في مصلحة الولاياتالمتحدة". وفي الوقت الذي عد فيه كثير من المسلمين والعرب مبادرة الرئيس الأمريكي خطوة عظيمة، كانت التصريحات من الجانب الفلسطيني محبطة إلى الحد الذي تحدث فيه لاجئ فلسطيني في لبنان لقناة السي إن إن بأن الخطاب: (لا يخدم إلا الدول العربية.. مصر والسعودية)، بل يشير استفتاء أعدته زوغبي انترناشيونال بداية هذا الشهر إلى أن أقل من ثلث الفلسطينيين يؤمن بأن أوباما قادر على تغيير أي شيء في واقعهم. هذه النظرة السوداوية التي تصبغ رؤية أكثرية الفلسطينيين مقلقة ولاشك، فالإنسان الفلسطيني الذي تعرض منذ انهيار عملية السلام في 2000، إلى سلسلة من المآسي بعضها على يد الاحتلال الإسرائيلي، وبعضها الآخر نتيجة للاحتراب الداخلي، يبدو اليوم عاجزا عن رؤية الأمل حتى في الوقت الذي يحلم به الجميع. إذا أخذنا ردة الفعل على خطاب أوباما كمعيار فإننا أمام حالة خطيرة، بحيث لا يرى أكثرية الفلسطينيين أهمية للخطاب المشار إليه، ولا المرحلة الجديدة التي يعد بها. طبعا، الجميع يكرر جملة "الأعمال أولى من الأقوال"، ولكن هؤلاء للأسف لا يدركون بأن أحاديث الرؤساء الأمريكيين في الغالب ليست للاتجار السياسي، بل تعني التعهد بسياسات عامة، كما أن هذه الخطابات لا تصدر إلا عبر توافق فريق الرئيس، ومن ثم هناك أجندة ملحقة بها. لقد قام الرئيس أوباما بعمل لم يجرؤ عليه أي رئيس آخر، وهو محاولة التقرب من العالم الإسلامي، وطرح مبادئ لتأسيس علاقة جديدة. المسارعون للتشكيك هم في خلفياتهم إما خصوم أبديون للولايات المتحدة - أي: أن شرعيتهم قائمة على عداوة أمريكا -، أو ضحايا سياسات كانت أمريكا طرفاً فيها. خذ على سبيل المثال دولة مثل إيران، حيث خرج المرشد الأعلى السيد علي خامنئي ومن بعده الرئيس نجاد يشككون في نوايا الرئيس أوباما، ويتهمون الولاياتالمتحدة ببيع الأوهام. حسناً، ربما كان ذلك صحيحاً، ولكن ألم تكن إيران أرسلت عشرات الرسائل إلى الرئيس الأمريكي جورج بوس الابن، وكذلك الرئيس أوباما، تطالب فيها بعلاقات قائمة على الاحترام، وأعلن من خلالها القادة الإيرانيون أنهم أصدقاء للشعب الأمريكي، بل كثير منا يتذكر كيف تحدث نائب الرئيس الإيراني عن أن الشعب الإيراني صديق للشعب الإسرائيلي، في الوقت الذي كان فيه مسؤولون إيرانيون يهددون فيه سيادة دولة البحرين. اليوم، حينما قدم لهم رئيس أمريكي ذات الخطاب الذي كانوا يكررونه عدوا المبادرة خديعة. حركة حماس – أيضاً - كانت قد بعثت برسائل كثيرة للأمريكيين وللأوربيين يطالبون فيها بالاعتراف بهم، والتعامل على أسس المصالح المشتركة والاحترام، ولا ينسى كثيرون بالطبع كيف استقبل اعضاء حركة حماس الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بحفاوة بالغة وسلموه رسالة إلى الرئيس الأمريكي، تطالب بعلاقات جيدة بينهم وبين أمريكا، بل إن الحركة كانت قد استضافت في عدد من المرات مثقفين يهود وإسرائيليين وحملوهم رسائل تطمين إلى إسرائيل - واللوبي الإسرائيلي في أمريكا - بعدم رغبتهم في المطالبة بأكثر من حدود عام 1967. ماذا كان ردهم على خطاب الرئيس أوباما؟ ليس مرحباً بالطبع، بل سارع قادة الحركة إلى وصفه بالخطاب الظالم، المبني على مغالطات. إذا كان الفلسطينيون منقسمون إلى فريقين، أحدهما يرى الآخر إرهابا، والثاني يراه بمنزلة المحتل، فكيف إذا يأمل أحد في أن يحرز الرئيس الأمريكي أي تقدم على مسار الحل! هل الشعوب العربية ضد عملية السلام كما تزعم إيران وحزب الله وحماس؟ لا، ففي أكثر من استفتاء أجري في السنة الأخيرة - أبرزها مشروع البرفيسور شبلي تلهامي نهاية مايو الماضي-، فإن أكثر من ثلثي مواطني العالم العربي يؤيدون قيام حكومة وحدة فلسطينية بين فتح وحماس، ويرفضون انفراد أحدهما بالسلطة دون الآخر، بل ويؤيدون قيام دولة فلسطينية بحدود 1967 إلى جانب دولة إسرائيل. قد يشكك بعضهم في هذه النتائج، ولكن الأهم هو أن هناك أكثرية في العالم العربي تدرك أن إسرائيل حقيقة على الأرض، وأن الأولى للفلسطينيين هو الاتحاد لإقامة دولة وطنية للشعب الفلسطيني. لأكثر من ستة عقود عدت القضية الفلسطينية محل الخلاف الأول بين العرب والولاياتالمتحدة، وحينما جاء الوقت لكي يعرض رئيس أمريكي بشجاعة التعاطي مباشرة مع القضية الفلسطينية، لا يبدو أن الفلسطينيين معنيين بالأمر. من المؤسف حقا، ألا تجد مبادرة الرئيس الأمريكي آذاناً فلسطينية موحدة، وإذا كان بعضهم يطالب الرئيس الأمريكي بأن يترجم أقواله إلى أفعال، فكيف يسعه ذلك في ظل وضع سياسي معقد على الداخل الفلسطيني. اليوم تقع المسؤولية الأولى على عاتق الفلسطينيين، فالرئيس الأمريكي لا يسعه إلا أن يهدد بوقف الاستيطان، وبتعاط بارد مع حكومة نتنياهو اليمينية، وكذلك الضغط على إسرائيل لوقف كثير من ممارسات الاحتلال. هل هذا قليل؟ لا، وقف المستوطنات وتحسين أوضاع الفلسطينيين اليومية هما ضرورة، والذين يزعمون غير ذلك إنما يرغبون الاستمرار في مهرجان المعاناة الذي لم ينته منذ ستة عقود. يجب أن يحدد الفلسطينيون موقفهم بين أن يكونوا أصحاب مشروع وطني لإقامة دولة، أو مشروع شتات قائم على عقلية الضحية التي لا ترى العالم إلا بمنظار الظلم والضيم. لن ينقذ الفلسطيني إلا الفلسطيني، لا أحد آخر. إذا لم يتوقف الفلسطينيون عن قتل بعضهم بعضاً، وعدّ الأخ أكثر عدواة من المحتل، فإنه لا أحد مجبر أخلاقياً على تحمل مشروع دولة لا يؤمن الفلسطينيون بها. باعتقادي، لن يتحقق للفلسطينيين دولة إلا إذا آمنوا بها، وتحقيق مشروع الدولة ليس مرتبطاً بالسلاح بالضرورة، أو الارتهان لهذه القوة الإقليمية أو تلك. لقد أصبح للسود في أمريكا رئيس بعد نضال سلمي قاده مارتن لوثر كنج، وتحررت الهند عبر مشروع غاندي السلمي، وزالت عشرات الجمهوريات الاشتراكية في أوروبا الشرقية عبر روح التغيير السلمية، وأصبحت جنوب أفريقيا وطنا للأفريقيين عبر تضحيات مانديلا. ولكن ماذا صنعت عشرات العمليات الفدائية، والانتحارية، للفلسطينيين إلا آلاف الضحايات الأبرياء. أمام الفلسطينيين فرصة كبيرة مع إدارة الرئيس أوباما، وستكون خسارة للجميع إذا ما قرر الفلسطينيون الاستمرار في حربهم الأهلية على استثمار هذه المرحلة.