يسرى فودة استقالتى من قناة الجزيرة لا تعنى أننى خاصمتها. ببساطة هى تعنى فقط أننى لا أريد أن أبقى رقماً فى معادلاتها الجديدة. إذا كان جانب منى حزيناً على فراق شاشتها، فإن جانباً آخر منى سعيد بانضمامى إلى مشاهديها. وإذا كان جانب منى يرجو لزملائى بها (هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون) كل التوفيق وكل النجاح ما وسعتهم الظروف، فإن جانباً آخر منى يدعونى إلى أن أتحمل واجبى ومسئوليتى تجاه نفسى وتجاه من أتوجه إليهم بما قدرنى الله عليه من عمل. تجربة الحرية، بمعنى من المعانى، كتجربة الموت؛ فمثلما لا يستطيع المرء أن يزور الموت ثم يعود منه، لا يستطيع المرء أيضاً أن يزور الحرية ثم يعود منها. وقع عقلى على هذه الصورة الملهمة بينما كان هؤلاء الذين شاركوا فى تأسيس قناة الجزيرة (وأنا واحد منهم) فى نشوة اللحظات الأولى لانطلاقة القناة عام 1996. كان الأمر مفاجأة لنا جميعا،ً فلم يكن أحد (حتى من هؤلاء الذين تخرجوا فى تليفزيون بى بى سى) ليتوقع ربع النجاح الفورى الذى أحرزته قناة انبثقت فجأة من صغرى الدول العربية. وأقولها صراحةً وإنصافاً إن الغالبية العظمى لهؤلاء الذين شكلوا نواة القناة غادروا لندن حين غادروها فى طريقهم إلى الدوحة مضطرين بعد انهيار مشروع بى بى سى (بقيت أنا لمجرد أننى استطعت البقاء مهنياً)، وأن أحداً منا لم تكن لديه فكرة عن كنه المشروع القطرى. سريعاً بات من الواضح أن قناة الجزيرة وجدت ضالتها فى شارع عربى يعانى حرماناً على مستويات عديدة: سياسية وإعلامية وثقافية وإنسانية، ومن ثم استحوذت فجأة على خانة لا منافس لها فيها. ولأن المرء يتفوق على أقران الصف لسبب من ثلاثة، إما لأنه اجتهد أو لأن الآخرين أهملوا أو لمزيج من الاثنين، فقد بدا تفوق الجزيرة لأول وهلة فى تقديرى للسبب الثانى أكثر منه للسببين الآخرين دون أن أنكر على زملائى جهودهم. فمن الناحية المهنية، لم نضف كثيراً إلى عالم الصحافة التليفزيونية عندما وضعنا مذيعاً فى استوديو ومعه ضيف أو اثنان. لكنّ الواقع العربى اكتسب الكثير عندما أضيف إلى الاستوديو عنصر آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكن فى حاجة إلى ميزانية ولا إلى عبقرية: خط هاتف مفتوح لمن يريد أن يتكلم على الهواء أمام الملايين داخل بلاده وخارجها. لقد كان هذا ببساطة انقلاباً فى واقع المواطن العربى لا فضل كثيراً فيه للعاملين فى الجزيرة بقدر ما عاد الفضل فيه لما وصف وقتها ب«سقف الحرية». ولأن ما مُنح من أعلى يمكن أن يُسترد فى أى لحظة، فقد كانت تلك ظاهرة سياسية أكثر منها ظاهرة إعلامية جعلت رد فعل الآخرين عليها يمر بثلاث مراحل. كانت ملامح المرحلة الأولى منها سياسية بحتة، تمثلت فى أمور من مثل سحب سفراء من الدوحة واتصالات مكثفة وضغوط حثيثة لاحتواء هذه التى أطلق عليها البعض مصطلح »الظاهرة الصوتية«. وكالطفل الصغير الذى جرب المشاغبة فاكتشف أنها تلفت الأنظار، اكتشف المسئولون فى قطر، صغرى الدول العربية (ولا عيب فى ذلك)، أن بين أيديهم الآن ما يمكن أن يتحول إلى كنز وبين أيديهم دائماً حجة ألا شىء يحدث فى قطر يستحق التغطية (وهو ما ليس صحيحاً). هذا فى الوقت الذى بدأ رد فعل الآخرين ينتقل إلى المرحلة الثانية تقوده طاقة سلبية أكثر منها إيجابية. فبدلاً من تطوير الأداء الإعلامى بدأت حملات لاذعة، بعضها تحت الحزام، صاحبها إغلاق مكاتب وتوقيف مراسلين و«شغل فى الأزرق». وكلما زاد ذلك زادت نشوة «الطفل المشاغب»، يوازيها شغف واهتمام متزايد فى دوائر إسرائيلية وأمريكية كانت تتابع انعكاسات هذه الظاهرة بدقة وعناية. ومن ثم بات واضحاً أننا أمام طوفان يحاصر البيت، وأننا إذا لم نبادر بإحداث بعض الثقوب فى الأبواب والنوافذ بأنفسنا، فلن يكون للطوفان سوى نتيجة واحدة حتمية. كانت تلك لحظة فارقة تُحسب طبعاً لقناة الجزيرة، لكنها تُحسب أيضاً لهؤلاء الذين قبلوا التحدى وانطلقوا بطاقة إيجابية نحو تحسين الأداء الإعلامى، فبدأنا نرى ألواناً جديدة من التغطية الخبرية وبرامج الأحداث الجارية، حتى بدأنا نرى قنوات بأكملها تنطلق تعبيراً عن هذه المرحلة، ومنها قناة النيل للأخبار فى عام 1998 وقناة أبوظبى فى عام 2000 وقناة العربية فى عام 2003. والمستفيد الأول دون شك هو المواطن العربى أينما كان. غير أن النجاح غير المشكوك فيه لقناة الجزيرة حتى تلك النقطة لم يكمن تماماً فى إزعاج الحكام العرب، وإنما ظهر واضحاً، كما يرى متابع جيد مثل أمير طاهرى، فى استغلال حالة ما يوصف بالشارع العربى واستدرار تعاطفه، عن طريق افتراض أن الأصولية الإسلامية فى تصاعد فى كل الدول العربية، وأن الغالبية العظمى تؤيدها سراً. ورغم ذلك كان هناك مجال لا يزال حتى تلك النقطة لمن يعتمدون العمل الصحفى الميدانى القائم على المهنية والبحث والتدقيق، للخروج عن هذا الخط، طالما أن ما يوصف بالبرامج الحوارية (التى يسهل السيطرة عليها) لا يزال «مسلّياً»، والأهم من ذلك أنه بطبيعته البحتة لا يستطيع الاستمرار بعيداً عن ذلك الخط. بدأت مرحلة جديدة فاصلة بعد خمس سنوات صارت الجزيرة فيها أهم من قطر، وهو وضع غير طبيعى فتح باباً واسعاً لكثير من المتناقضات، حتى أن أحد الضيوف من غير العرب سأل الزميل محمد كريشان يومها (وهذه ليست نكتة): «و كيف حال الطقس هذه الأيام فى الجزيرة؟» ظناً منه أن قطر هى القناة والجزيرة هى الدولة. وكانت قناعة المسئولين فى قطر قد اكتملت بأن لديهم الآن جيشاً قوى البنية حان الوقت لاستخدامه فى بعض الغزوات، ومن ثم رفضوا تماماً (على عكس ما كان مفترضاً وفق قانون إنشائها) طرح أسهم الجزيرة فى الأسواق بعد خمس سنوات، وبدأنا نلحظ وتيرة متصاعدة للتدخلات التحريرية. حتى ذلك الوقت فقط كانت الإدارة قد رفضت إذاعة ثلاثة تحقيقات جادة من برنامج «سرى للغاية». دشنت المرحلة التالية بدورها مرحلة أخرى على صعيد آخر: نظرة الغرب عموماً إلى مدى قدرة الإنسان العربى على ممارسة صحافة جادة قادرة على المنافسة العالمية، والأهم من ذلك نظرة دوائر بعينها فى إسرائيل وفى أمريكا إلى هذه «الورقة» الجديدة. ولأننا نعلم من قوانين الجغرافيا السياسية أن أى دولة فى حجم دولة كدولة قطر (مع صادق احترامنا لأهلها) لابد كى تحيا من أن تعيش تحت ظل دولة كبرى، عادةً تكون إحدى دول الجوار، فقد كان الموقف فى حالة دولة قطر كالتالى: إلى يمينها إيران «المتوثبة»، وإلى يسارها السعودية «كاتمة الأنفاس»، ومن فوقها عراق صدام، وعلى مرمى البصر إسرائيل ومصر. ثم بعد ذلك هناك شيخ الحارة كلها: أمريكا. ولأننا نعلم أى خيار استراتيجى ذهب إليه المسئولون فى قطر فقد صارت الجزيرة، خاصةً لدى بداية تلك المرحلة، عضلة تبدو عملاقة، وإن كانت فى الواقع عضلة هشة يمكن ببساطة إغلاقها بمكالمة هاتفية مختصرة، مثلما يمكن ببساطة «اختطافها» لخدمة أهداف بعينها بعضها فورى وبعضها الآخر استراتيجى، بعضها يمكن رؤيته بالعين المجردة، وبعضها الآخر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. فى لحظات المصير، رغم ذلك، تسقط الأقنعة وتبين الملامح. بدأت التهيئة الإعلامية لغزو العراق الذى أدى فى النهاية إلى كثير من النتائج، من بينها ذبح صدام حسين، لكن ذبحاً آخر كان قد سبقه لم يلتفت كثيرون إلى معناه: ذبح المدير العام للقناة حتى ذلك الوقت، محمد جاسم العلى. كانت مرحلة «اختطاف» قناة الجزيرة قد بدأت، وكنت أنا قد قدمت استقالتى منها رسمياً لأول مرة، الأمر الذى استدعى تدخلاً مباشراً من أمير قطر. وتلك قصة أخرى.