عند تحليلنا للظاهرة الإبداعية، نجدنا منجذبين بطريقة أو بأخرى إلى شخصية المبدع، ذلك أننا نعتقد جازمين بأن تلك الشخصية تتوفر على سمات خاصة، مكّنت المبدع من الإتيان بالمنتج الإبداعي، أياً كان هذا المنتج، غير أننا ومع ذلك كله قد نركّز على مجموعة من السمات الأقل أهمية، بل ربما نذهب إلى سمات لم يثبت علمياً وقوعها في نطاق السمات الشخصية للمبدع، مما يجعلنا ملزمين بالتأكيد على أهم تلك السمات التي أثبتتها مئات الدراسات العلمية. تعد السمات (أو المهارات) العقلية للمبدع من أهم تلك السمات وتتضمن الآتي: السمة الأولى: المرونة Flexibility، وتشير إلى قدرة الإنسان على تغيير زوايا التفكير لديه بحيث يتمكن من توليد أفكار متنوعة، ولقد ثبت لدي تجريبياً من خلال عشرات البرامج التدريبية التي أقمتها لمدة تلامس 15 سنة أن المرونة هي السمة أو المهارة الأهم، بل إني أعتبرها من أسرار الإبداع الكبرى. والمرونة تجعلك حين تفكر في مسألة ما أو مشكلة ما لا تذهب إلى توليد الأفكار بل إلى وضع مجموعة من الزوايا التي تمنحك قدرة فائقة على استكشاف مناطق جديدة تمكنك من توليد أفكار متنوعة. وهنالك فارق كبير في أداء العقل الإنساني حين لا ندفعه إلى توليد أفكار منذ اللحظة الأولى بل ندفعه إلى اكتشاف الزوايا أو الجوانب المتعددة للمسألة أو المشكلة، وهذا يعني أن العقل يعمل على توسيع هوامش الحركة الذهنية قبل أن يقوم بالتمدد الفعلي لعملياته الذهنية. دعونا نضرب مثالاً عملياً لتوضيح هذه الفكرة. لنفترض أن الإنسان يريد أن يحدد موضوعاً في (التغير الاجتماعي) لكي يكتب فيه بحثاً أو مقالة أو رسالة علمية، من خلال التجارب العملية وجدت أن أكثر الناس يميل إلى الضغط المباشر على العقل لكي ينتج أفكاراً في شكل موضوعات مقترحة... هنا نجد أن الإنسان يمسك قلماً أو يجلس أمام شاشة الحاسوب ليكتب بعض الأفكار ولكن الحصيلة في المتوسط لا تتعدى خمس أفكار، وهذا يعني أن العقل لم يستجب بفعالية لمثل ذلك الطلب كما كنا نظن أو نرجو، والسبب في ذلك أننا لم نؤسس الفضاءات الكافية لعقلنا لكي ينطلق ويعمل على توليد الأفكار في تلك الفضاءات... هنا نقول بأن الإنسان لم (يشغل) مكنة المرونة الذهنية لديه! والحل يكمن ببساطة في تشغيلها... كيف ذلك؟ بدلاً من الاتجاه المباشر إلى توليد الأفكار، دعونا نتوجه إلى وضع بعض الزوايا الممكنة لموضوع التغير الاجتماعي... وبعد أن نضع تلك الزوايا نقوم بعملية استحلاب لتلك الزوايا من أجل توليد الأفكار منها... فمن الزوايا الممكنة ما يلي: بخصوص الزمن لدينا ثلاث زوايا محتملة: التغير في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، كما أنه لدينا احتمالات دراسة التغير لمدة طويلة أو متوسطة أو قصيرة، بخصوص الشرائح الاجتماعية لدينا عدة زوايا: المجتمع بأكمله أو فئات اجتماعية معينة أو فئة اجتماعية محددة، بخصوص مستويات التغير: تغير شامل أو تغير جزئي، بخصوص نوعية البيانات: كمية أو نوعية (كيفية)، بخصوص العوامل المؤثرة: ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، عوامل داخلية وخارجية، عوامل مباشرة وغير مباشرة... ونحو ذلك من الزوايا التي يمكن أن تتيح لعقولنا أن تسبح في عالم مليء بالخيارات المتنوعة، الأمر الذي يجعل العقل قادراً على توليد أفكار متنوعة في اتجاهاتها، ليس ذلك فحسب بل ثرية في كميتها أيضاً، وهذا يقودنا إلى السمة العقلية الثانية للمبدع وهي سمة الطلاقة والتي نتعرض لها بشكل مفصل في مقال قادم.