التاريخ معايشة أو قراءة وما راءٍ كمن سمعا، وآفة الأخبار رواتها، والتاريخ يكتبه المنتصر، إذاً فالمعايشة تقطع قول كل خطيب، وتاريخ الدول (الديموقراطية) يقوم على تداول السلطة لا احتكارها، ومن ثم يرتبط بالمؤسسات القائمة، إذ كل رئيس يختار فريقه، وإذ لا يَعِد بتغيير جوهر السياسة فإنه على الأقل يغير الطريقة وترتيب الأولويات وتفضيل الحوار على المواجهة. والتصرفات الرعناء التي مارستها المؤسسة السياسية لدولة القطب الواحد في مشرقنا العربي المنكوب بيد أبنائه وأعدائه على حد سواء تاريخ مرحلة مأزومة، لا يمكن تجاهله ولا تبريره، ولقد يفزع الشقي بعقله إلى آماله الكاذبة ليُهدهد نفسه القلقة بمعسول الأماني، غير أن الحقائق الدامغة لا تدع للمتسلي أملاً ينسيه مآسيه، وحينئذ لا يكون مناص من مواجهة القدر المحتوم بالصبر والاحتساب أو بلطم الخدود وشق الجيوب، ومن المؤلم الممض والظلم الوخيم أن يتوقع العالم الثالث من دولة بحجم أمريكا بما هي عليه من ادعاء عريض للحرية والعدالة والمدنية والتحضر بعض ما تدعيه وما تعد به ثم لا يكون إلا التخذيل والإحباط ومساندة الأعداء الغاصبين أو أن يتوسم بالأبناء خيراً ثم يفاجأ بما ليس بالحسبان ليقول مع النادم على ضياع إحسانه: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني لقد كان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين شرّ الأوعية التاريخية لأنه أتى على كل الآمال، وشرّه المستطير لم يكن من طرف واحد بحيث يُتقى، لكنه من أطراف كثيرة: ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث والسنوات الثماني العجاف التي قضاها سيئ الحظ والسمعة والتصرف (جورج دبليو بوش) على سدة السلطة أكلت السنبلات الخضر، وسوف لا تكون فترة النقاهة ميسورة، بل سيظل العالم يتجرع مرارتها أعواماً عديدة، وإذا وقعت الواقعة فإن الأمل ليس في صدها، ولكنه في التفكيك والتحليل واستخلاص العبر وسبل الوقاية من واقعة مماثلة، وتحامي تكرار اللعب القاتلة، حتى يقول المتجرعون للمرارات: التاريخ يعيد نفسه، لقد تجرع العالم العربي تصدير الثورات، وها هو يتجرع المرارة نفسها بتصدير الطائفية، وهو قد فقد وعيه باحتلال (الكويت) وها هو يسمع بمحاولات احتلال (البحرين) أليس في ذلك إعادة حرفية للتاريخ المأزوم، ودفع محموم لمنطقة إلى أتون فتن جديدة تنسي الأمة ما سبق من فتن مذلة. والقادم إلى البيت الأبيض يرث تركة كما الظلمات التي بعضها فوق بعض لا يدري من أين يبدأ ولا مع من يبدأ، إذ ليس بإمكان مؤسسته أن تنفرد، وليس بمقدور العالم أن يحيّد مؤسسة، وتلك معادلة صعبة. وإذا كان الانهيار الاقتصادي الموجع هو الهم الأول فإن انهيار السمعة وانعدام الثقة وتخلف المكانة لا تقل عن النكسة الاقتصادية، وإذ لا يتطلع الشرق الأوسط لتغيير جوهر السياسية الأمريكية وشطب مجمل (الأجندة) فإن الأمل في تحسين طرائق الأداء، فالقادم إلى البيت الأبيض مسؤول عن استعادة السمعة والمكانة والثقة قبل أن يُقيل العثرة الاقتصادية، وقد يتطلع المشرق العربي إلى ملء الفراغ الدستوري في العراق وقمع الغطرسة الصهوينية والحيلولة دون التصدير الطائفي، وبذلك يمكن تفادي الوقوع في المهاوي السحيقة التي وقع فيها صناع الكراهية والاشمئزاز والخوف والجوع وإزهاق الأنفس البريئة وتدمير الممتلكات وإجهاض الأنظمة وذهاب الريح، فالكائن لا مردّ له، ولكن ما لم يكن يود المعذبون في الأرض ألا يكون كالذي كان. وخروج (بوش) من البيت الأبيض فتح بصيصاً من الأمل فبعض الشر أهون من بعض. ولقد تكون ناصية الداخل إليه مباركة ليعيد الله به بعض ما تتطلع إليه الشعوب المسحوقة، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فقد يكون في علم الله عودة الوفاق العالمي ورفع الظلم عن شعوب لا يعنيها إلا عيش الكفاف على يد ذلك القادم الذي قلب كل الموازين بدخوله للبيت الأبيض، وقد كان في يوم من الأيام لا يسمح له بدخول المطاعم الشعبية، ولما لم يكن من المتوقع في المنظور القريب من هو أهل لها من أهل الإسلام فقد يقضي الله بما ليس في الحسبان، وكم يُنصر الإسلام بغير أهله، وما ذلك على الله بعزيز، ومتى أراد الله إمضاء قدره أتاح له من جُنده الذين لا يعلمهم إلا هو، من يبعث في النفوس الثقة والطمأنينية، ويضع أمامهم عدة خيارات، والعالم اليوم بما يعانيه من ويلات لا يدعو ثبوراً واحداً ولكن يدعو ثبوراً كثيراً وتلك الانكسارات المتلاحقة هيأته لقبول الحلول المهدئة للأوضاع وإن كانت دون المؤمل. والعالم الذي يتنفس الصعداء بخروج الأشأم من البيت الأبيض يود من الداخل فيه ألا يكون كسلفه يستوحى سياسته من الخرافة (الإنجيلية) و(الصهيونية المسيحية) والخوف الذي يجتاله من نكسة عالمية ثانية يستوحيها المراقبون الوجلون من استفحال الخرافة الدينية التي تنساب كالخدر في أجسام أصحاب القرار العالمي، وإذا كان العالم يتأذي من التطرف الذي ينتاب الأفراد دون المؤسسات فإن أخطر مؤسسة عالمية يمسها طائف من تطرف هو إلى الخرافة أقرب منه إلى أي شيء آخر، ولست متفائلاً من وعود القادم الذي لم يصب بعد بوضر المتربصين وراء (الكواليس) وفي (اللوبيات). والذين يقرؤون ما يكتبه الناجون من شرانق التضليل الصهيوني من شهود الأهل ينتابهم الذعر، وأمريكا التي تقدم حكام العالم في العدّة والعتاد مخترقة من المضلين، ومن تتح له قراءة كتابي (غريس هالسل) (النبؤة والسياسة) (ويد الله)، وما كتب عن خرافة (هرمجيدون) يدرك أن الواقع العالمي يهرول نحو الهاوية، وأن إنقاذه لن يكون بخروج حاكم ودخول آخر، وإنما هو بتحكيم العقل ومبادرة الوفاق والسلام وإتاحة الفرصة للعالم المتعذب بمعالجة أوضاعه بالطريقة التي يراها، وقدر الشرق الأوسط أن يكون قصعة تتداعى عليها الأيدي من كل جانب، وأن تبلغ الغثائية فيه حداً لا يطاق، وأن يختلف قادة العالم بين آكل للطريدة، أو مُستمنح لها/ بحيث يدعُ فيها بقية، وكيف يتاح التفاؤل والفتن تعصف به من كل جانب؟ فمن ثورات سياسية لم تخلف إلا السجون والمقابر الجماعية إلى ثورات طائفية لا تحفل إلا بالتصدير الطائفي والاختراق عبر الأحزاب والمنظمات، ومن مغامرات طائشة كسرت العظم وأحلت قومها دار البوار إلى مزايدات رخيصة من شراذم لا تملك إلا ألسنة حدادا ونواصي كاذبة خاطئة وأبناء عققة يجهلون قواعد اللعب السياسية ومقتضيات الأنساق الثقافية، ومن ثم يهرفون بما لا يعرفون. والعالم الذي يودع رئيساً إلى حيث حطت رحلها أم قشعم ويستقبل رئيساً يشيعه بتفاؤل عريض بحاجة إلى سياسية قادرة على التفاعل مع المستجدات المحتملة، فالرئيس القادم يفضل خيار الحوار والموائد المستديرة، والعالم العربي ربما يكون الأكثر تضرراً من سياسة الضرب من تحت الحزام، وأمل المتفائلين ألا يغلب عسر يسرين.