من الطبيعي أن ينتهج المثقف والكاتب والمفكر موقفا فكريا يعبر عن قناعته ، وما يراه أقرب إلى فهمه ، وأن يكون هذا الموقف أيضا شارحا لموقفه من القضايا والواقع والتغيرات ، ومن الممكن أيضا أن يدعم مساره الفكري بما تكون لديه من رصيد ثقافي إلى جانب ما توصل إليه ذاتيا ، وخاصة عندما يقوم بفحص رصيده الثقافي بنظرة نقدية معتمدا على أساليب المقارنة والمراجعة والتي عن طريقها يستطيع ربط الذات ومضامينها الإبداعية بالعوامل الموضوعية ، كما أن تمكن الكاتب من إدراك المعاني المتغيرة لمختلف العوامل الخارجة من أجل الوصول إلى حقائق المعطيات التي يواجهها يزيد من مستوى وعيه ، وبالتالي يؤدي إلى اتساع مدى بحثه عن النتائج المعرفية المحتملة والتي ترضي شغفه وتطلعه . وما نشاهده على الساحة الثقافية يشكل لدينا نظرة نقدية عن سلبيات هي أقرب إلى التقلبات والمزاج والرغبة عند كثير من المثقفين والكتاب وخاصة إذا كانت تلك التقلبات تحدث خلال فترات قصيرة ومتقاربة مما يدل على أن حدوثها نتيجة لتأثر الكاتب بما يواجهه من أحداث بعينها وليس تغيرا فكريا حقيقيا ، وعليه فإننا أحيانا نجد الكاتب وقد تبنى نظرية أو مذهبا إيديولوجيا أو تجربة تقليدية أو واقعا ثقافيا باعتبار أنه قد وصل إلى قناعة بما تبناه أو هو يتوهم تلك القناعة أو لغرض خاص لديه بينما نجد موقفه ليس مبنيا على قناعة راسخة أو بحث عن حقيقة أو اختيار معرفي حر . وفي الساحة الثقافية العربية تواجهنا عدة نماذج تشهد على هذه السلبيات ، والتي هي أقرب إلى الموضة منها إلى التغير الايجابي القائم على فكر مرن وبناء ، وفي فترة قصيرة نجد التحول المفاجئ من تيار إلى تيار مختلف عنه دون مقدمات أو تفكير لتبرير هذا التحول . نجد من يتبنى اتجاها ما وبعد وقوع حدث ما أو تهافت نظام ما أو فشل تجربة ما يتراجع عن تبنيه مسايرة لما حدث مما يدل على ضعف موقفه وعدم قناعة قوية لديه بما تبناه سلفا ، وعلى العكس نجد من يعود إلى تبني موقفه الذي تخلى عنه بسبب اختلاف الحدث ، فتجده مثلا يفكر ثانية بما اقتنع به سابقا نتيجة لأزمة سياسية أو مالية عصفت بالنظام المقابل والايدولوجيا المغايرة . والنظر إلى الأزمات المختلفة بأنها لا تقبل إلا تفسيرا واحدا يخدم تقلبات مزاج الكاتب ويشير إلى أن هذا الكاتب غير مستقل بفكره وأن ما يفكر به ويراه يتحدد تبعا لمجريات ومفاجآت الأحداث دون تعمق في تحليلها. وإذا أردنا النظر إلى أسباب تلك التقلبات لدى الكتاب ، والتي هي أشبه بالمزاج والموضة فسنجدها مختلفة في قوتها بحسب الحالة ، ومن أهم الأسباب نقص الثقافة حيث نجد كاتبا يكتب أكثر مما يقرأ ، وبالتالي فإن فكره قد انحصر في نطاق ضيق من المسائل والأفكار ، وعندها تصبح خياراته محدودة . ومن جانب آخر ، قد يكون لدى الكاتب اطلاع وثقافة واسعة ولكنه في نفس الوقت لا يتعامل مع هذا الكم الهائل بحس نقدي ولا يتعامل معه بطول تفكير بل نجده أقرب إلى تلقيه كما هو مما يتسبب بإتباعه لما يمليه هذا الكم من وقائع موجهة. كما أن هناك أسبابا أخرى تشرح هذه الموضة البعيدة عن الفكر الجاد والعميق، ومنها وقوف عدد من الكتاب عند ثقافة تقليدية مرحلية سواء كانت تراثية أم مضى عليها مئات السنين ، وخاصة ما يتعلق بالثقافات العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فإذا أراد الكاتب تجديد فكره ومراجعة قناعاته فإن شرط تحقق ذلك أن ينوع مصادر معرفته وأن يواكب باستمرار ما يتم طرحه من أفكار و نظريات ومدارس وإصدارات بعكس ما إذا توقف الكاتب عند تحصيل ثقافي معين ولفترات سابقة فإن ذلك مما يسلبه ميزات عقل الإنسان المتجدد دوما.