باختصار: أكدت المحرقة النازية على قطاع غزة بأن الإطار السياسي الفلسطيني الحالي لم يعد صالحاً أو ملائماً للقضية الفلسطينية... هذه حقيقة يجب أن يفهمها العرب جميعاً... دعونا نتعاطَ مع هذه المسألة بشيء من التفصيل. حتى لا نعاند الحقائق! كان السيد فارق القدومي (أبو اللطف) صريحاً ومباشراً حين أشار في حديثه الجريء لقناة الجزيرة في 4/1/2009م بأن منظمة التحرير الفلسطينية تحتاج إلى إعادة تشكيل... وأحسب أن هذا الطرح الجسور من تلك الشخصية المفتاحية في العمل الفلسطيني لا يعبر عن مجرد وجهة نظر شخصية، بل يعكس رأي كثير من الشخصيات الفلسطينية المفتاحية - المنتمية والمستقلة - فضلاً عن كثير من الفصائل الفلسطينية، وقد اتكأ ذلك الطرح على حقيقة "مطلقة" عن الحقائق والتي تتجسد في أن الحقائق هي الأكثر عناداً، فهي تعلو دائماً على كل ما عداها وتنتصر أبداً على كل من عاداها ولو بعد حين... إذن نحن مطالبون بالبحث عن الحقائق الصلبة أو شبه الصلبة التي يمكن لنا أن نخرج بها من جراء "عدائية الثقافة الصهيونية" في "سبتها" المقدس المشؤوم وعدوانها الأثيم على قطاع غزة. نعم، قد نختلف حول بعض الحيثيات المحيطة ببعض الحقائق جرّاء عوامل متعددة، غير أن الحقائق تفرز إطاراً متماسكاً من النتائج المقنعة، والتي تدفع العقل والوجدان إلى السير في اتجاه عقلاني يحقق المصالح، ويتناغم مع الإطار الثقافي والقيمي. وعلى هذا فربما يكون ملائماً أن نتعاطى مبدئياً مع بعض الحيثيات التي تؤكد على حتمية إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية – باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد -، ويمكن إجمال أهم تلك الحيثيات في بنود مكثفة. حتمية الفرز! كشف لنا العدوان الصهيوني بعض الأسرار الهامة في محيطنا العربي، والتي تتطلب قدراً كافياً من الاشتغال البحثي والتحليل المهني من قبل النخب العربية في ميادين السياسة والقانون والاقتصاد والثقافة، كما هيأ لنا الكثير من المشاهد التي مكّنت حتى الإنسان البسيط من إنجاز عمليات "فرز" لمن هو مع، ولمن هو ضد قضية فلسطين بثوابتها ومشروعيتها. هذا تحليل عام لا يسعنا الوقوف في هذه المرحلة المفصلية عنده، بل لابد من أن نقترف شيئاً من "الشفافية الحتمية" التي تلامس بعض التفاصيل التي من شأنها تغذية عقولنا بمدخلات جيدة ل "التفكير الاستبصاري" الذي يتيح لنا تحديد الأبعاد الحرجة في هذه القضية؛ أي الأبعاد الأكثر أهمية وتأثيراً ونتائج عبر عمليات ذهنية تحليلية راقية... وعملية الفرز يمكن النظر إليها كميكانزم طبيعي في أي حركة سياسية ونضال تحرري، وذاك أمر يشهد عليه التاريخ، ويعضده البرهان العقلي، ومن جهة أخرى فإن الفرز الذي نشدد على حتميته هو فرز مؤسّس على إطار عقلاني؛ مُحكم فكرياً وسياسياً وقانونياً، بما يجعله يوازن بين المكاسب والخسائر وفق بعدها التاريخي وقياساتها الحضارية؛ متجاوزاً الأطر الضيقة التي تقوم على مجرد "تنفيس" أو "فضح" أو "تشويه" أو "انتقام" من شخصيات أو رموز محددة. إذن العقلانية في الفرز تحمي عملية الفرز وإجراءاتها ونتائجها من التورط في تصفية حسابات "حزبية" أو "شخصية"، كما أن عقلانية الفرز تتطلب منا – كعرب – عدم إلقاء عبء الفرز وتكاليفه على الأخوة الفلسطينيين؛ فهم وحدهم لا يطيقون إنجاز ذلك بسبب تعقد شبكة العلاقات داخل البيت الفلسطيني، وطبيعة الأدوار والأهداف التي تلعبها وتتوخاها الدول المجاورة والإقليمية في القضية الفلسطينية... إذن نحن - بطرحنا لفكرة حتمية الفرز - لسنا ضد أحد بعينه، غير أن نضالنا المشروع في قضيتنا العادلة يحتم علينا التأكيد على أن تلك القضية أكبر من كل أحد.. والمحصلة المبتغاة هي إعادة تشكيل الإطار السياسي الفلسطيني وفق معايير جديدة... تضعضع المنظمة يدفع باتجاه إعادة تشكيلها هنالك اتجاهات متزايدة في المحيط الفلسطيني والعربي والإسلامي وربما الدولي بأن الإطار السياسي الفلسطيني الرسمي – متمثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية - بدأ بالتضعضع والضعف على نحو يدفع إلى إعادة تشكيله وفق معايير جديدة، وذلك لعدة أسباب نجهد لأن نرتبها بشكل متسلسل منطقياً: 1. رحيل الرئيس السيد ياسر عرفات في 2004م؛ إذ خسر العمل الفلسطيني تلك القيادة التاريخية الكاريزمية لعرفات، صحيح أنه باشر عملية "انسحاب" منظمة التحرير الفلسطينية من الطور "النضالي" أو "سياسة القوة" " إلى طور "المفاوضات" أو "السياسة الناعمة"، وصحيح أيضاً أنه لم يتعامل بصرامة كافية مع "الفساد" في المنظمة، الذي استحال إلى "فساد مقنن": يولد ذاته تلقائياً ويحمي نفسه بنفسه، بما في ذلك التراخي مع بعض الشخصيات الفتحاوية التي أحدثت انشقاقات وانقسامات خطيرة داخل المنظمة بل داخل حركة فتح ذاتها، إلاّ أن عرفات وعلى الرغم من ذلك كله عُرف عنه التمسك الشديد بثوابت القضية وعدم سماحه بأن تمس "خطوطها الحمراء" من أي طرف كان. 2. ذهبت الأقدار باتجاه تولي السيد محمود عباس دفة قيادة المنظمة، ولسنا ندرك الأسباب الحقيقية التي جعلت حركة فتح تخفق في أن تدفع بمن هو أكثر "كاريزمية" من أبي مازن، الذي شهدت فترة رئاسته انقسامات وانشقاقات أكثر خطورة وأوسع مدى داخل حركة فتح نفسها، ومنها "حركة فتح الياسر" والتي سُمّيت فيما بعد بحركة الأحرار، والتي قادها السيد خالد أبو هلال. 3. خسارة حركة حماس لحكمة الشيخ الكبير أحمد ياسين وكاريزميته المؤثرة على المستوى الفلسطيني والعربي، بجانب فقد حنكة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، مع الضعف الواضح في التجربة السياسية لحماس في بداية اشتغالها في العمل السياسي المباشر، والذي تجسد في لعب دور "المعارضة"، ومن ثم دخول الانتخابات، وما ترتب عليها من فوز الحركة وتشكيل الحكومة في 2006م. 4. يذهب الكثير من المحللين إلى أن أبا مازن في اتجاهاته وقيادته للعمل الفلسطيني قد تسبّب في تنامي نفوذ بعض الأطراف الفلسطينية - كدحلان والرجوب – على نحو جعلها تخرج على بعض الثوابت أو تلامس الخطوط الحمراء للقضية الفلسطينية، وقد ألمح إلى ذلك العديد من الرموز الفتحاوية مثلما ألمح إليه السيد فاروق القدومي في اللقاء الذي أومأنا إليه في المقدمة، كما صرح بعض المفكرين والمحللين الفلسطينيين المستقلين ببعض الأسماء بشكل علني، كما فعل "بلال الحسن" حين أشار إلى عباس بضرورة إقصاء "دحلان" تماماً عن الساحة السياسية باعتباره "عصا الشيطان" الإسرائيلي، مشدداً على أهمية إجراء عمليات فرز داخل المنظمة بقصد تنقيتها من "الدخلاء". 5. ما أشارت إليه العديد من التقارير العربية والدولية، وأكدته حول حقيقة تورط بعض الأطراف في حركة فتح في تنفيذ "انقلاب مبيّت" ضد حركة حماس - المنتخبة شعبياً - في عام 2007م، بما في ذلك التنسيق المباشر مع الكيان الصهيوني وبعض الأطراف العربية الإقليمية، وتشير تلك التقارير إلى العديد من الشخصيات. 6. قد لا نكون صادقين في تحليلنا لأسباب تضعضع منظمة التحرير الفلسطينية؛ حين لا نورد حقيقة تردي شعبية المنظمة برموزها الحاليين حتى على المستوى الشعبي، وذاك أمر لا يُستهان بتأثيره، لاسيما بعد أن رسخ العدوان الصهيوني بكل غباء عروبة القضية الفلسطينية وإسلاميتها من جهة، وكرس لكاريزمية البعد النضالي لفصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس من جهة ثانية؛ فالشعوب العربية والإسلامية ترى في كل من يحارب الكيان الصهيوني "بطلاً قومياً" و"رمزاً إسلامياً" بغض النظر على نتائج النضال وآثاره القريبة؛ فالذاكرة الجمعية للشعوب تتقن فن تقيم نتائج الحركات التحررية وفق قياساتها التاريخية وأبعادها الحضارية. 7. الاعتبار السابق يؤكد على أهمية مراعاة نظرة الشعوب إلى المنظمة وتقييم أداء قادتها في معادلات الفرز؛ فالشعوب العربية والإسلامية باتت أكثر وعياً بالقضية الفلسطينية وبما ينفعها أو يضرها، كما أنها أضحت أكثر استعداداً للبذل والتضحية، خاصة أنها تشعر بالتقصير الشديد تجاه العدوان الصهيوني على قطاع غزة، كما أنها ترى النتائج الإيجابية لشجب الشجب بطريقة دفعت بعض الساسة العرب إلى تجاوز "الشجبية" إلى ما هو أكثر إيجابية، وأعتقد بأن الشعوب تمتلك طاقة روحية ووجدانية للاستمرار في ممارسة تلك الضغوط. 8. تزايد معدلات الفساد داخل منظمة التحرير الفلسطينية، في وقت لم تشهد فيه الحركة التحررية الفلسطينية "الرسمية" أي نوع من التخلص من الفساد والمفسدين الكبار، الأمر الذي كرس للفساد المقنن وجذّر له، وقد قبعت المنظمة في ذيل قائمة الفساد - وفق منظمة الفساد الدولية ولجان فلسطينية متخصصة-، وهذا شيء مستغرب حقاً أن تتورط منظمة تحت الاحتلال بهذا القدر من الفساد، بجانب تضخم منظمة التحرير الفلسطينية من الناحية البنيوية والتنظيمية، فمن يشاهد وزاراتها وهيئاتها بأعدادها الكبيرة ومسمياتها المتنوعة يعتقد بأنه أمام هيكل حكومي لإحدى الدول الإسكندنافية! لقد تضخمت المنظمة وتغوّلت وأضحت هدفاً بحد ذاتها. 9. وأخيراً وليس آخراً، التحيز الأمريكي والأوربي للكيان الصهيوني، والضغط باتجاه تقسيم المنطقة إلى "معتدلين" و"متطرفين" وفق "الفرز الصهيوني"؛ مع الدعم اللامحدود لذلك الكيان "الاستيطاني الإحلالي" سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كل ذلك سيعمل على صناعة مادة شديدة الانفجار في بيئة عربية وإسلامية تتأبى على الفرز الصهيوني، وتلح من جهة أخرى على ضرورة "الفرز العربي والإسلامي"، وأي تأخير من قبل الأنظمة والفعاليات العربية في تنفيذ مهامها في إنجاز "الفرز العربي والإسلامي" قد يدفع فعاليات شعبية وربما حركات تغيير متطرفة للقيام بما يعتقدون أنه محقق لعلميات الفرز الصحيحة من وجهة نظرهم. خلاصة: إذن كل ما سبق يؤكد على ضرورة إعادة تشكيل الإطار السياسي الفلسطيني – منظمة التحرير الفلسطينية- وفق معايير جديدة تحقق العدالة في التمثيل والفرز العقلاني المحكم، والانعتاق من قبضة الايدولوجيا وإعادة اللحمة مع العالم العربي والإسلامي؛ لتعيد ضبط بوصلة العمل الفلسطيني التحرري، بشقه السياسي والنضالي في دائرة الثوابت والحقوق المتفق عليها، ونحسب أن تلك الرؤية تتوفر على قدر مقنع من الحقائق الصلبة أو شبه الصلبة، وهي رؤية يعضدها – فيما نحسب - الكثير من الرموز والشخصيات والفصائل والفعاليات الفلسطينية، والعربية والإسلامية أيضاً... وأخيراً لنا أن نتساءل: - هل تمانع الأنظمة العربية من تنفيذ هذا المطلب الملح؟ ولماذا؟ وهل تعقل النتائج التي يمكن أن تترتب على تأخير هذه الخطوة؟ - هل تفترض القيادة الفلسطينية الحالية بأنها "قيادة أزلية سرمدية"؟ وهل تطيق إقناعنا بأنها هي الأفضل في أدائها التحرري، سياسياً ونضالياً بما يعيد لنا الأرض والمقدسات والكرامة والتاريخ والحضارة؟ وكيف نفسر مواقفها في العدوان على غزة؟ أهذه هي السياسة فعلاً؟ في أي أدبيات سياسية يمكن أن نجد مثل ذلك النهج السياسي؟ - هل تقدم النخب العربية – بكافة أطيافها وتخصصاتها - إطاراً تكاملياً عملياً يدفع باتجاه تحقيق إعادة ضبط بوصلة العمل الفلسطيني التحرري، بشقه السياسي والنضالي؟ أرجو ذلك، مع إيماني الشديد بأنه: لا نجاح في النضال التحرري بغير فرز عقلاني يتم إنجازه وفق إطار محكم ورؤية وحدوية مع مراعاة الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أطرها العربية والإقليمية والدولية. وفي الختام: أؤكد على أن الشعوب - على الرغم من بساطتها وضعف أدائها- باتت أكثر وعياً، وأكثر فعالية في القضية الفلسطينية، والمظاهر على ذلك كثيرة والمجالات متنامية... مما يجعلني أشدد على أن الحكومات العربية يجب ألاّ تغفل عن هذه الحقيقة!