لثلاثة عشر عاماً مضت منذ وفاة والدتي نورة بنت أحمد السديري لم أستطع كتابة كلمة واحدة في رثائها رحمها الله، بكيتها كثيراً بدموع صامتة، لكنني كنت أراها بإستمرار في مناماتي أتحدث معها، تعاتبني أحياناً وتفرح معي أحياناً أخرى بل أنها بشرتني مرة بأنني سأكون بخير. لم أرث والدتي لأنني أعيش حالة من الإنكار عندما أفقد أحبائي، أجد صعوبة في إزالة أرقام هواتفهم من هاتفي، بعضهم لازال هناك وكأنني أتوقع أن يتصلوا بي يوماً ما. والدتي بالذات لا زلت أعيش قوة حضورها في حياتي، أكاد أراها في مجلسها في خيمتها تدلل أحفادي كما دللتني ودللت إخوتي وأخواتي ودللت أبنائنا، وكما كانت تجمعنا حولها وتجمع كل من يمت لها بصلة وهم كثر. لماذا إذاً أشعر الآن بالحاجة للكتابة عنها؟ الرجل مهما بلغ من العمر يصبح يتيماً حينما تموت أمه، وأنا ماتت أمي الأسبوع الماضي للمرة الثانية. شريفة بنت عبدالرحمن البازعي، أختي الكبرى، هي أمي الثانية، ليس لأنها ربتني في بيتها في مرحلة من مراحل طفولتي، ولكن لأنه تجمعها بوالدتي كثير من الصفات المشتركة بشكل مذهل. السيدتان تمثلان حالة إنسانية قليلة الحدوث، سواء بين الرجال أو النساء، يصعب أن تجد الإنسان القادر أن يكون محورياً في حياة الكثيرين من حوله، الزعماء والقادة يؤثرون في حياة الناس لكن يكون لهم محبون وكارهون. لكن أن تكون محبوباً ومرجعاً وملجأ لكل من هو حولك قرب أو بعد، فهذه هي معجزة نورة بنت أحمد السديري وشريفة بنت عبدالرحمن البازعي. في عزاء والدتي كنت أعزي الآخرين بقدر ما كنت أتلقى العزاء، وجائني أناس لا أعرفهم يطلبون مني مواساتهم، وهكذا كان الحال في عزاء شريفة. الدموع التي ذرفتها في عزاء شريفة كفكفتها شهقات الآخرين ونواحهم، وهكذا كان الحال في عزاء والدتي. قال أحد أبناء عمي "هذا عزاء كان الجميع فيه يعزون الجميع" .. وكأنما كان يصف الحالتين. الكرم، الزهد بالدنيا والمال، الإقبال على الحياة، قوة الشخصية، الصبر الغير إنساني على الآلام الشخصية وتجاوزها، المرجعية الأسرية، تبني الأيتام، الصدقات المعلنة والخفية، الحنان الذي يغطي البنات والأبناء وأبنائهم وبناتهم ويفيض ليغطي أبناء وبنات الأعمام والخالات والقريبين والبعيدين، الحس الإنساني العالي الذي يرفض معاملة العاملين المنزليين كخدم وإنما يرفعهم لمرتبة أعضاء الأسرة .. هذه بعض الصفات التي لو حدثت أحداً من القريبين من هاتين السيدتين لأضاف إليها أكثر منها. لحسن الحظ أنني لا أكتب على ورق وإلا لساحت الأحرف وإختلطت الكلمات، ولعلي أتوقف هنا حين أقول أن نورة بنت أحمد يتمتني في المرة الأولى وعاشت معي شريفة بنت عبدالرحمن شخصية مرجعية تحبني وأحبها حتى رحلت فتيتمت للمرة الثانية. " وقل ربي إرحمهما كما ربياني صغيرا" .. صدق الله العظيم.