لم تمهله الأقدار ولو قليلا ليدرك الربيع العربي، ولو عاش عبد الرحمن منيف إلى هذا الوقت الذي يرى فيه شخوصه الروائيين والحقيقيين يخرجون من المعتقلات لربما كتب جزءا ثالثا من روايته "شرق المتوسط" يسائل فيها سجونا عاينها متخيلا، وندد بها باعتبارها "مجاز العدالة القتيل". لكن صاحب "لوعة الغياب" أسلم نفسه لربه قبل تسعة أعوام، بعد ترحال ومناف طويلة تاركا وراءه سيرة روائي عالمي ومثقف نقدي آمن طوال حياته بقدرة الكلمة المقاتلة على صنع التغيير، ومضى بتعبير إلياس خوري "وقد همس حكاياته بخفر، لكن كلماته تدق الأبواب وتدعونا إلى كتابة الرواية من جديد، كي تقفل أبواب السجون وننصرف إلى صناعة الحياة". رحلة المنافي ما بين إطلالته على الحياة في العاصمة الأردنية عمّان عام 1933 ورحيله عنها في دمشق في الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2004، عاش منيف "كما أراد أن يعيش، معتصما بصمود الروح، وبكتابة متدفقة تدافع عن الحياة وتتصدى لثقافة الموت" بحسب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. ارتحل منفيا بين مناف كثيرة، وهو ابن لتاجر سعودي جوّال، أورث صبيه شغفا بالترحال، لكنه الرحيل الإجباري تحت عنوان كبير هو "المنفى". درس في كتاتيب الأردن أولا وحصل على شهادة الحقوق من بلد أمه العراقية ببغداد. وهناك فتح عينيه على جدال السياسة الصاخب، بدأ حياته ماركسيا ولم تطاوعه نفسه أن يبقى ضمن إطار حزب اعترف بدولة الكيان، فهجره إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ثم عاد ليتركه لاحقا، وقد أيقن كما يقول عن تجربته "بعد تجربة استمرت أكثر من خمسة عشر عاما تبين لي أن الأفق السياسي هو أفق مسدود لا يلبي رغباتي فانصرفت إلى الرواية". تعددت به المنافي ورحلة الدراسة فانتقل إلى القاهرة وبعدها إلى بلغراد متحصلا على شهادة الدكتوراه في اقتصادات النفط. عاد بعدها إلى دمشق عام 1962 ليعمل هناك في الشركة السورية للنفط، ثم انتقل إلى بيروت عام 1973 ليعمل هناك في مجلة "البلاغ"، ثم عاد إلى العراق مرة أخرى عام 1975 ليعمل في مجلة "النفط والتنمية". غادر العراق عام 1981 متجها إلى فرنسا ليعود بعدها إلى دمشق عام 1986 ملقيا عصا الترحال، يسطر إبداعاته ويعلن في كتاباته السياسية انحيازه إلى المستبد بهم، رائيا وناقدا أيضا للفكر العربي مع المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس والناقد الفلسطيني فيصل دراج في مجلة شهادات، وفي الفيحاء التي تنزف الآن استسلم لغيابه الطويل. وفي منافيه شاطر منيف الفلسطينيين مأساتهم ومنفاهم أيضا، وهو الذي حفرت النكبة في ذاكرته ووجهت وعيه السياسي فيما بعد لذا "فلا غرابة أن كان المنفي منيف فلسطينيا آخر عاش مأساة الفلسطينيين وتعاطف مع قضيتهم مدركا أن مصائبهم لا تنفصل عن أقدار العالم العربي". في أدبه تأخر إبداع صاحب "مدن الملح" حتى دخوله سن الأربعين مقدما رواية أولى هي "الأشجار واغتيال مرزوق"، وينقل الروائي اللبناني حليم بركات عن منيف قوله "جئت للرواية في وقت متأخر نسبيا، وما كنت أتصور في يوم من الأيام أنني سأصير روائيا، قبل هذه الفترة كنت مشغولا بأمور سياسية وكنت أفترض أن عملي السياسي هو خياري الأساسي". بعدها قدم منيف فضحا روائيا للأنظمة القمعية في روايته "شرق المتوسط" التي تناولت موضوع التعذيب في السجون الذي تمارسه الأنظمة الشمولية العربية التي تقع في المنطقة العربية وشرق المتوسط. وإذا لم يكن منيف الروائي العربي الأول الذي تناول موضوع السجون في روايتيه "شرق المتوسط" و"الآن هنا"، فقد سبقه إلى ذلك صنع الله إبراهيم في "تلك الرائحة"، فإنه بحسب الروائي اللبناني إلياس خوري يوغل في التسجيل ويبني واقعيته الرومانسية من خلال علاقة حب بأمه في الرواية الأولى. أما في الرواية الثانية فنذهب إلى واقعية عارية يجسدها انتقال السجن بأسره إلى مستشفى كارلوف في براغ، حيث يمتزج مرض المجتمع بمرض شخصيات الرواية وتصير الكتابة وسيلة للحوار مع الذات والتاريخ. قدم منيف في مسيرته الإبداعية خمس عشرة رواية من بينها خماسية "مدن الملح" التي يعرض فيها للتطورات الاجتماعية ما بعد ظهور النفط.
دخل منيف "إلى عالم الرواية من باب السياسة، ودخل السياسة من باب الثقافة، وأخلص للرواية والسياسة والثقافة حالما بالحداثة الاجتماعية التي تعني حق البشر في وجود إنساني كريم" بحسب الناقد فيصل دراج. بيد أنه في انهماكاته تلك كان نزيها وهو يختصر البؤس العربي المسيطر إلى صلابة السجن ووحشية السجان، وبذلك "احتلت مقولة المقاومة حيزا واسعا في خطاب منيف الشفهي والمكتوب في آن لا بالمعنى الاستهلاكي اليومي، بل بمعنى البشر الذين يصنعون تاريخهم". المصدر: الجزيرة