استقبل ملايين المسلمين في فرنسا شهر رمضان الجاري، بعد أسابيع من تفجير أوسلو الذي راح ضحيته العشرات، وعلى الرغم من أن الإرهابي الذي قام بالعملية ليس مسلماً، إلا أن أصابع الاتهام كانت موجهة إلى المسلمين، ما يجعل الجاليات المسلمة تحت ضغط متواصل. وتقول إحصاءات حديثة إن المسلمين الفرنسين باتوا أكثر إقبالاً على ممارسة شعائرهم الدينية مقارنة مع السنوات الماضية. وتقول دراسة أجراها المعهد الفرنسي لسبر الآراء، ان مسلمي فرنسا هم اليوم أكثر التزاما بدينهم مقارنة بما كانوا عليه قبل 20 عاماً. في حين أشارت نتائج الدراسة إلى أن صورة رئيس الجمهورية تبقى سلبية لدى هذه الجالية، رغم إطلاق المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يعتبر انفتاحا من جانب الدولة العلمانية. وتقول البيانات إن الشباب أصبحوا يهتمون بأداء الصلاة في المساجد وصيام رمضان ومعرفة المزيد عن دينهم. يقول الباحث جيروم فوركيه، إن هذا التوجه ليس حصراً على الجالية المسلمة في فرنسا، بل يشمل المسلمين المهاجرين عموما، ويدل على أن أعدادا أكثر من المسلمين في أوروبا لم يصبحوا منبهرين بالنموذج الغربي والحياة البعيدة عن القيم الدينية، حسب تعبيره. واللافت أن مجموعات إسلامية تتعايش بانسجام كبير مع مجموعات إنجيلية في عدد من المدن الفرنسية، كما هي الحال في مقاطعة سان دوني، التي يوجد فيها اكبر تجمع للمسلمين الذين يمارسون الشعائر بشكل منتظم. ومع تزايد أعداد المسلمين في فرنسا تزداد الحاجة إلى المزيد من أماكن العبادة، وتشتكي بعض المناطق من ازدحام المساجد والمصليات، ما يضطر المصلين لاستخدام الشوارع العامة، خصوصاً في صلاة الجمعة والتراويح. ويوجد في فرنسا عشرات المساجد ومئات المصليات، وقد افتتح أخيراً مسجدان جديدان في مدينة ستراسبورغ وليل، ويقول مصطفى مهدي، وهو من سكان ستراسبورغ «قبل 10 أو 15 عاما كنا نصلي في أقبية البنايات، واليوم لدينا مسجد وهذا أمر جميل». وعلى الرغم من أن الأشغال في مسجد ستراسبورغ الكبير لم تنته بعد، إلا أن أجزاء منه افتتحت هذا العام بمناسبة شهر رمضان. وشيد المسجد بطريقة خاصة، إذ لا توجد داخله أعمدة تعيق النظر أو تفصل صفوف المصلين، ويمكن أن يستوعب 1500 مصلٍ. ويوجد في مدينة ستراسبورغ الواقعة في أقصى الشمال الشرقي، نحو 60 ألف مسلم، ما يعني 12? من إجمالي عدد السكان، أما المسجد الذي افتتح في ضواحي مدينة ليل، فقد كان بمثابة حلم تحقق بعد طول انتظار، وفي ذلك يقول الياحي الوسيدي، وهو عامل متقاعد من أصول مغربية «لقد انتظرناه 30 عاماً»، مضيفاً «لقد انهارت دموعي عندما سمعت الأذان لأول مرة»، ويعيش نحو 150 ألف مسلم في مدينة ليل وضواحيها. يقول أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة باريس السيد رايس «نحن المهاجرون من شمال إفريقيا، جئنا إلى فرنسا، وها نحن نمارس شعائر ديننا، كما لو كنا في بلداننا الأصلية». ويكتظ مسجد باريس الكبير بالمصلين في شهر رمضان، ويتوافد مئات المسلمين كل مساء لتأدية صلاة التراويح، إلا أن السلطات الفرنسية شددت في الفترة الماضية إجراءاتها حول المساجد للحد من ظاهرة الصلاة في الشوارع المحيطة بالمساجد، وفي الوقت الذي تتسع فيه المساجد الكبيرة لأعداد إضافية من المصلين، تبقى المساجد الصغيرة والمصليات في حاجة إلى أماكن إضافية. وقد اضطر سكان في ضواحي باريس إلى تحويل مستودعات ومخازن إلى مصليات، خصوصاً في شهر رمضان. ويقول البعض إن الصيام لايزال صعبا في فرنسا، مقارنة بالدول الإسلامية، إذ تغلق المقاهي والمطاعم خلال نهار رمضان. عطلات (حلال) على غرار المحال التي توفر اللحم الحلال، ابتكرت مؤسسات وشركات خاصة نوعا من العطلات لتلبية حاجة المسلمين لقضاء إجازاتهم في أماكن تتوافق مع مبادئ دينهم. وفي ذلك يقول رئيس جمعية مسلمي روزني سو بوا، سليم عمارة، ان مسلمين يختارون خدمات الجمعية، لأنهم يرتاحون إليها، وينظم عمارة مع زملائه رحلات سنوية وموسمية إلى منطقة نورماندي وجبال الألب، منذ 10 سنوات، لمصلحة عائلات مسلمة. واختارت الجمعية هذا العام، أعالي جبال الألب لتكون محطة لعشرات العائلات التي تبحث عن الاستجمام والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة، ضمن عطلات (حلال). ويوضح عمارة «أغلب المشتركين في الجمعية يفضل أن يكون ضمن مصطافين مسلمين». ويقول المسؤول عن الجمعية إن الرحلات الجماعية «تقوي الإيمان وتساعد على إعادة شحن المعنويات». ويقول القائمون على «العطلات الإسلامية»، إن الهدف من تنظيم الرحلات هو توفير جو مناسب للمسلمين الذين يريدون الترفيه عن أنفسهم من دون التنازل عن قيمهم وعاداتهم. وتسعى الدولة الفرنسية لإدماج المسلمين في النسيج الاجتماعي دون مراعاة خصوصيتهم الدينية والاجتماعية. سلوك مرفوض على الرغم من تزايد عددهم المستمر، وفي ظل قوانين الجمهورية الفرنسية التي تمنع مساعدة الدولة لبناء أماكن العبادة، يعاني مسلمو فرنسا نقصاً في أماكن العبادة، ولعل مدينتي باريس ومرسيليا - حيث يتواجد أكبر عدد من المسلمين - أفضل مثالين على ذلك. تكرر مشهد الصلاة في الشوارع من قبل مسلمي فرنسا كل أسبوع، والسبب الرئيس هو نقص المساجد وأماكن الصلاة. المشهد نراه في مرسيليا، إذ شبهت مرشحة حزب اليمين المتطرف مارين لوبن ذلك ب«الاحتلال»، لكن المشهد نراه في العاصمة باريس أيضا، فكل يوم جمعة عندما يتم التحضير للصلاة في هذا المسجد في العاصمة الفرنسية، نرى حشدا من المصلين داخل المسجد، وآخرين في الخارج. وفي ذلك يقول رئيس «تجمع المسلمين المنفتحين»، موسى نيمبيليه، ان «المكان يستوعب من 300 إلى 400 شخص، لكن هناك نحو 800 أو حتى 1000 شخص يصلون هنا، سترى الناس بعضهم فوق بعض مثل علب السردين». وتقول التقديرات إن نحو ستة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، وخصص لهم 90 مسجدا و1800 صالة للصلاة، وبحسب هؤلاء المصلين فهم بحاجة إلى ضعفي هذا العدد. من جهتها، تعهدت بلدية باريس بتمويل مشروع إنشاء معهد ثقافي جديد للمسلمين بكلفة 20 مليون يورو، يقسم إلى قسمين، الأول مفتوح للجمهور، ويحتوي على المعارض والمكتبة، تموله المدينة، أما القسم المخصص للصلاة فيتم تمويله من التبرعات، وبمجرد الانتهاء من هذا المشروع فمن المفروض أن تختفي ظاهرة الصلاة في الشارع، على الأقل في العاصمة. جدل متزايد عاد النقاش حول مكانة الإسلام ودوره في المجتمع الفرنسي الى صدارة المشهد السياسي الفرنسي هذا العام، وأثار وزير الداخلية كلود غيان، المتهم منذ تعيينه في الحكومة في يناير الماضي في الحكومة، بالسعي الى قطع الطريق على اليمين المتطرف الذي يشهد صعودا، جدلا بتعليقاته عن عدد المسلمين في فرنسا. وصرح المسؤول قائلا «صحيح ان زيادة عدد المؤمنين بهذه الديانة (الإسلام) وبعض السلوكيات تطرح مشكلة». وذكّر بأن القانون حول العلمانية في فرنسا يعود الى بداية القرن الماضي، عندما كان هذا البلد يضم عدداً قليلاً جداً من المسلمين «بينما يقدر عددهم اليوم بين خمسة وستة ملايين». وفي المقابل، رد القيادي في الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند، على تصريحات وزير الداخلية، قائلا انه «في كل مرة يتحدث فيها كلود غيان منذ ان أصبح وزيراً للداخلية، يبدأ جدل». مضيفاً «هوسه هو التحدث عن المسلمين». وفي مارس الماضي، أثار غيان استياء اليسار بتأكيده ان الفرنسيين «لديهم شعور بأنهم لم يعودوا في بلدهم»، بسبب «الهجرة غير المضبوطة». وأفادت استطلاعات للرأي بأن زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبن، ستكون قادرة على التأهل الى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، وانها تتقدم بشكل ثابت على ساركوزي في نوايا التصويت. وبعد ان تولت قيادة الحزب خلفا لوالدها، جان ماري لوبن، منتصف يناير الماضي، أدرجت خطاب حزبها في اطار اليمين المتطرف الاوروبي، عبر التركيز على مكانة الاسلام في المجتمع، وقد هاجمت المسلمين الذين يصلون في شوارع عدد من الاحياء القليلة في فرنسا، في غياب اماكن مناسبة للصلاة. وقد سعت فرنسا لبقاء الدين بعيدا عن الحياة العامة منذ ان فصلت رسميا الكنيسة الكاثوليكية عن الدولة عام .1905 وطبقا لاستطلاع اجراه معهد غالوب عام ،2009 فإن 80? من المسلمين الفرنسيين عبروا عن ولائهم لفرنسا، لكن 56? من عامة الناس شككوا في ولاء جيرانهم المسلمين لمبادئ الجمهورية. عن «لوفيغارو»، «مترو فرانس»، «فرانس 24»