كشفت المجزرة الأخيرة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة من أول أيامها عن وجه آخر لأنماط التفكير الجمعي لدى السعوديين، فقد أظهرت على السطح ولعا سعوديّا بقيادة المتناقضات، حيث انطلقت صواريخ الفتاوى والبيانات والكلمات والمقالات والتصريحات تخبط بعضها بعضاً وتسقط العديد من القتلى والجرحى عقليّاً، في حين زادت حيرة رجل الشارع العادي وحسرته مع المشاهد الدموية التي تسيطر على شاشات التلفزة، وتزامن هذا مع أوضاع اقتصادية متوترة إذ ما زالت أسعار المواد الغذائية والمنتجات مرتفعة، الأمر الذي قال أحد المراقبين إنّه أدّى لخفض تبرعات السعوديين للفلسطينيين من 454 مليون ريال في عام 2000 إلى 119 مليون ريال في عام 2009. وأطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز حملة تبرعات لصالح فلسطيني غزة، ووصلت أرقام التبرعات التي كان يتم استقبالها عن طريق البث المباشر على التلفزيون الرسمي بنهاية اليوم الأوّل إلى 100 مليون ريال، كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله قد بدأها بثلاثين مليون ريال. ولم تكد تطلق إسرائيل أولى صواريخها باتجاه القطاع المحاصر، حتّى انطلقت المظاهرات تجوب أنحاء دول العالم تنديداً بما تقوم به قوات الاحتلال من قتل للمدنيين والأطفال وانتهاك كلّ الأعراف الإنسانيّة والدوليّة. وفقط في السعودية كانت هناك ظاهرتان محيّرتان، أولاها إرسال مجموعة من الوجوه البارزة اجتماعياً سمّوا أنفسهم (دعاة العدل والشورى وحقوق الإنسان) خطاباً لوزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز يستأذنون فيه بأداء اعتصام بعد ظهر الخميس 31/12/2008. وجاء في الخطاب الذي تناقلته مواقع اليكترونية عديدة، ما نصه "تعلمون ما يتعرض له إخواننا الفلسطينيون في قطاع غزة على يدي النظام العنصري الصهيوني من تجويع و حصار وكافة أشكال التدمير، التي منها قصف قطاع غزة يوم السبت الموافق 29/12/1429 الموافق 27/12/2008 و قد عبرت كافة شعوب العالم عن احتجاجهم عبر الوسائل السلمية ولاسيما البلدان العربية والإسلامية، وليس من الطبيعي أن يبقى مهد الإسلام والعروبة وبلاد الحرمين من دون تعبير عن احتجاج سلمي جماعي". وأضاف الموقعون "لذلك يرغب عدد من دعاة العدل والشورى وحقوق الإنسان التعبير عن مشاركتهم عبر اعتصام سلمي محدود في مدينة الرياض، في شارع النهضة من الساعة الواحدة حتى الساعة الثانية ظهراً". وذيّل الخطاب الذي وزعت نسخة منه على الإنترنت بأرقام هاتفيّة لمن يرغب في المشاركة، إلاّ أن شيئاً لم يحدث عند الواحدة ظهر الخميس في شارع حيّ النهضة بالرياض، ولم يصدر من وزارة الداخلية ردّ بالسماح للمتظاهرين من عدمه. أمّا الظاهرة الثانية التي انفردت بها العناوين السعودية، فقد كانت فتاوى منسوبة للشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء، الشيخ قال ردّاً على سؤال حول المظاهرات إن "الغوغائية لا تنفع بشيء، وإنما هي مجرد ترهات، ولكن بذل المال والمساعدات هي التي تنفع، فالمظاهرات لا خير فيها ولا مصلحة منها، وإنما غوغاء وضوضاء لا خير منها". حسب التعبير الذي نقلته صحيفة عكاظ. وسبق فتوى مفتي السعودية حديث للشيخ صالح اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء قال فيه إن "التظاهر يعد إفساداً في الأرض"، معتبراً في تصريح لصحيفة الحياة أن المظاهرات التي شهدها الشارع العربي ضد غارات إسرائيل على غزة "ليست من الصلاح والإصلاح"، ووصف تعبير الجماهير عن مواقفها عبر التظاهر بأنه "استنكار غوغائي". ولم تمرّ فتوى الشيخين هذه المرّة مرور السمع والطاعة المعتاد، إذ تزامنت مع احتقان اجتماعي سعوديّ على ما يحدث في غزة، في ظل صمت عربي خاذل وغير إنساني، فانبرى عدد من الكتّاب السعوديين يمثلون أطيافاً فكرية متعددة، بعضها إسلامي وبعضها ليبرالي، للرد والتعليق على فتوى الشيخين. واستشهد المعترضون بقصص مثبتة في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، تؤكّد حدوث التظاهر تعبيراً عن الرأي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد الصحابة محددين ذلك بشروط شرعيّة معينة منها عدم الاعتداء أو التخريب. وتمنع الحكومة السعودية التظاهر لأسباب أمنية، واستطاعت مجموعات من السعوديين التظاهر للمطالبة بأمور مختلفة منذ مطلع الخمسينات الميلادية حتى الآن، وعرفت السعودية أولى المظاهرات مع بداية اكتشاف النفط وانخراط بعض المواطنين السعوديين في أعمال الحفر والتقيب التي تقوم بها شركة أرامكو، ففي مطلع الخمسينات قام مجموعة من العمال السعوديين بمظاهرات واعتصامات لمطالبة الحكومة السعودية بإعطائهم المزيد من الحقوق ومساواتهم بالعمال الأمريكيين، كما قامت مجموعات من السعوديين بالتظاهر تأييدا لجمال عبد الناصر الرئيس المصري آنذاك، وفي بداية الثمانينات قامت مجموعات من السعوديين الشيعة بالتظاهر تأييدا للخميني و الثورة الإسلامية في إيران ترافق ذلك مع مظاهرات و احتجاجات قام بها الحجاج الإيرانيون طوال مواسم الحج خلال الحرب العراقية الإيرانية.ومع بداية حرب الخليج الثانية قامت مجموعة من السعوديات بالتظاهر للمطالبة بحقهن في قيادة السيارات وذلك عن طريق السير بموكب مكون من أربعين سيارة تقودها النساء في شوارع الرياض، وبعد انتهاء الحرب قامت مجموعات من السعوديين بالتظاهر للمطالبة برحيل القوات الأمريكية عن السعودية سجن على إثرها بعض المشائخ ومنهم سلمان العودة و سفر الحوالي، كما قام عدد من تلاميذ الشيخين بالتظاهر للمطالبة بالإفراج عنهم. ومع بداية الإنتفاضة الفلسطينية الثانية قامت مجموعات من السعوديين بالتظاهر احتجاجا على ما يتعرض له الفلسطينيون، وفي عام2002 تظاهرت مجموعة من السعوديين الشيعة في نجران وقاموا بمحاصرة مقر سكن أمير منطقة نجران وإطلاق النار، وفي عام 2003 قامت مجموعة محدودة من السعوديين بالتظاهر في الرياض استجابة لدعوات أطلقها المعارض السعودي في الخارج سعد الفقيه.