والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر حفظت وضيعت المودة بيننا وأحسن من بعض الوفاء لك العذر وفيت وفي بعض الوفاء مذلة لآنسة في الحي شيمتها الغدر تلك بعض أبيات من قصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني. قصيدة من أجمل القصائد العربية التي حظيت بشهرة واسعة. تحفظ كاملة في الصدور، ومجزأة تغنى، أو مستقطعة كأمثال جرت على الألسن بين العامة يستشهدون بها في مواضع مختلفة. ويكمن جزء من جمال هذه القصيدة في تصويرها للانكسار البشري الذي يواجه الإنسان به نفسه قبل أن يصرح به للآخرين. هي لحظة مكاشفة مؤلمة يستغرق فيها المرء في الفكر حتى انه يقاوم دمعه أو ربما يستجيب لاستعصائه عليه حتى ينجلي له الأمر بينه وبين نفسه وحتى يعلم أن دمعه مصان بسريته، وأكثر ما نقاومه هو أول ما نعلن عنه.! أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر لا أشك أن كل من يقرأ هذه الأبيات أو يسمعها ممن تغنوا بها يرفع يديه مصفقاً ومردداً الله.. الله. غريب أن نستحسن الألم والحزن ولحظات الضعف في انكشاف الأرواح! ولكن الحقيقة نحن لا نملك إلا استحسانهم لروعة ذلك الأسلوب في التعبير عنهم برقي وصدق كان له قصب السبق في الاستحواذ على مشاعرنا عندما نقرأ هذا النص الذي رأى بعض الباحثين أن المقصود به ليس الحبيبة المتجبرة بل ابن عم الشاعر الذي خذله (سيف الدولة الحمداني) وأن المرأة هنا ما هي إلا رمز فقط حتى لا يفصح الشاعر عن عتابه لابن عمه! وحتى إذا كان كذلك فالنتيجة واحدة وهي نص جميل فيه من السهولة والوضوح اللفظي ما يجلو عمق المعاني ودقتها وقدرتها على اختراق أحاسيسنا لأنها في النهاية تعبير انساني عن حالة الضعف التي تكسر صاحبها وهي في الوقت نفسه اظهار لمقاومة عصية على ذات الانكسار! معان تتأرجح بين هذا وذاك ففي الوقت الذي يتحرق شوقاً ويستغرق في هواجسه بين ألم السؤال والبحث عن تعليل لما يحدث من غدر وبعد يحاول أن يتجبر ويظهر ممانعة للضعف وهزيمة الدموع والانتظار له. تكاد تضيء النار بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكر معللتي بالوصل والموت دونه اذا مت ظمآناً فلا نزل القطر ويظهر ذلك التأرجح أكثر ما يظهر في هذين البيتين ففي الوقت الذي تكاد نار أشواقه المستعره تضيء بين جوانحه، والأفكار تستبد به ويشعر بالخذلان من وعود لا توفى فكأن الموت دونها ولن يحصل عليها نراه ينتفض لكرامته بشطر بيته الذي عد عنواناً للأنانية (اذا مت ظمآناً فلا نزل القطر) ولكني لا أرى في ذلك إلا ما يتناسب مع حالة الشاعر المتأرجحة كما قلت فيكون المعنى: وما الذي ينفعني القطر بعد موتي؟ فلا حياة ولا وصال ينعم بهما ولا أشك في أن المقصود بالقطر بالنسبة للمعنى التام هو الوصل فقط لذا أرى أنه من الواجب أن نرفع عنه تلك التهمة فسائر القصيدة فيها من المعاني ما ينفي تلك التهمة حتى وإن جاز لنا استخدام ذلك الشطر في مواضع أخرى ويؤكد هذا قوله في البيت اللاحق مباشرة. حفظتُ وضيعتِ المودة بيننا وأحسن من بعض الوفاء لك العذر فقد كان يأمل وينتظر الوفاء ويعلل قسوته في البيت السابق لحسناء أضاعت المودة على الرغم مما قاساه من هموم لأجلها فكانت تبادله الحب بالصد والإعلاء بالاستهانة حتى انكرته واستنكرت أحواله. تسائلني من أنت وهي عليمة وهل لفتى مثلي على حاله نكر فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك. قالت: أيهم فهم كثر فقلت لها لو شئت لم تتعنتي ولم تسألي عني وعندك بي خبر فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر