دخلت إلى متحف لثقافات الإنسان فيما قبل الحقبة الكولومبية في أمريكا الجنوبية، وكنت غير متحمس له من أجل صغر حجمه، وتركيزه على الحفريات أكثر من الثقافة والأنثروبولوجيا. لكني وجدت فيه جديداً، وهذا أحد مصادر سعادتي الدائمة بأي سفر أو زيارة إلى بلد جديد، أو التعرف على ثقافة جديدة. فتلك المعارف مدعاة لفهم أعمق في الثقافة الذاتية، عندما تجلو بعض زواياها عمليات المقارنة بينها وبين غيرها من الأصناف الأخرى المقاربة والمخالفة. وعندما تأملت بعض اللقى الموجودة في المتحف، والمأخوذة من مناطق مختلفة في غربي القارة، حيث سكن أهل البلاد الأصليون بين القرن السادس والثاني عشر الميلاديين؛ وجدت شبهاً كبيراً بين معتقداتهم، وما يوجد في الشرق الأدنى والثقافات السامية بشكل عام. إذ كان من ضمن القطع المعروضة ما يمثل حياتهم، وتصوراتهم عن الكون والعلاقات التي تحكم مكوناته؛ فكانوا يرون أن الوجود المحسوس يشكل وحدة واحدة بما فيه من كائنات وأرواح وأسلاف. ويقابل ذلك عوالم أخرى؛ أهمها عالم السماء (بما فيه بالطبع من آلهة وعوامل تنشئها الآلهة، سواء كانت بأرواح أو دون أرواح)، والعالم السفلي (بما فيه من كائنات غير مرئية؛ بعضها متمرد على أنظمة عالم السماء، وبعضها الآخر يعيش في منظومة هذا العالم السفلي دون غرض: أي أنه محايد أو غير صاحب رسالة إيجابية أو سلبية). وليلاحظ القراء الكرام أن الحقبة التي تمثلها هذه المعتقدات تسبق وصول المسيحيين الاسبان إلى قارة أمريكا اللاتينية، أي أنها ليست استعارة مما في الأناجيل أو العهد القديم. وقد حاولت أن أتعرف على مدى أصالة الفكرة في حضارة الإنكا السابقة - بالطبع - لجميع الأديان السماوية؛ غير أني لم أجد مرجعاً يفيدني فيها إلى الآن، ولكني سأحاول في قادم الأيام. فإذا كانوا مع هذا البعد الجغرافي والثقافي عن ثقافات الشرق الأدنى يؤمنون بهذا التقسيم الثلاثي الموجود أيضاً في الهند، وهو أمر غير مستغرب، لقرب الهند من الشرق ومعتقداته؛ فكيف اختلف المصريون، الذين يعدون أحدث زمنياً من حضارة الإنكا، بأن قسموا مكونات الكون إلى عالمين فقط دوربما تكونون قد تصورتم الآن الشبه بين تفكيرهم في الكون وعوالمه من جهة، وتفكيرنا في الشرق، الذي تختلف فيه الأسماء فقط؛ بل إن عالم (أو ملكوت) السماء نسميه أيضاً بالاسم نفسه، ونختلف عنهم بكون جميع القائمين على هذا العالم من الملائكة. كما نجمع العالمين (اللذين سموهما: عالم الوجود المحسوس، والعالم السفلي) في العالم الأرضي؛ لكننا أيضاً نسمي تلك الكائنات غير المرئية بالعالم السفلي (أو التحتي). وفي الحكايات التي تحكى عندنا عن الجن يقولون إنه خسفت به الجن تحت الأرض، وبعضهم يحكي أساطير عن كونه اختُطف إلى ذلك العالم، ورأى فيه عالماً آخر تحت الأرض (بما يشبه المدن)، وفيها أنظمة مدنية وقوانين قضائية كتلك التي يملكها البشر، وغير ذلك من أوصاف تشبه الأساطير التي تحكيها شعوب المنطقة، وتتناقلها في ثقافاتها، مما قد يكون شطح بهم الخيال في تصور التماثل بين هذين العالمين؛ بل ربما قيل أشياء لا يصدقها العقل عن دقة الصنعة التي يتميز بها ذلك العالم السفلي. وبالمناسبة، فإن تقسيمهم كائنات ذلك العالم السفلي بأنها نوعان؛ يتفق تماماً مع الفكرة الشرقية، بأن فيهم الطيبين (من الجن)، وفيهم خلاف ذلك من الشياطين. وهم الذين قد يكونون سبق أن تمردوا على ربهم، وخرجوا من ملكوت السماء مغضوباً عليهم إلى ذلك العالم السفلي. فما الذي جعل هذا الاتفاق وارداً بين ثقافات متباعدة جداً من الناحية المكانية والزمانية أيضاً؟ فإذا كانوا مع هذا البعد الجغرافي والثقافي عن ثقافات الشرق الأدنى يؤمنون بهذا التقسيم الثلاثي الموجود أيضاً في الهند، وهو أمر غير مستغرب، لقرب الهند من الشرق ومعتقداته؛ فكيف اختلف المصريون، الذين يعدون أحدث زمنياً من حضارة الإنكا، بأن قسموا مكونات الكون إلى عالمين فقط: عالم الأرباب (أو الآلهة)، وعالم الدنيا (وفيها البشر/ أو خدم الآلهة)؟ أعرف أن هذه المقارنة شمولية؛ كما أن تلك القوى غير المرئية ليست دائماً من الصنف نفسه، وليس تقويمها أيضاً في إطار واحد. لكن وجود المصريين في قارة أفريقيا، التي تزدهر ثقافاتها بأنواع من التصنيفات للقوى الخفية (حتى لو لم تكن سفلية)، وعدم وجودها في ثقافتهم الدينية أو تصوراتهم الشعبية للكون، ربما يشير إلى ارتباطها بأفكار وافدة إلى مصر من ثقافات سابقة في أوروبا. وربما يكون ذلك نتيجة اهمال لمصير تلك القوى، التي لا تؤثر بأي حال في أوضاع الملوك (وهم آلهة في الديانة المصرية)؛ إذ يعنيهم التقسيم الثنائي فقط.