حتى قدومي إلى الدّنيا.. كان مشروع سفر.. بعد سنتين من ولادتي.. عاد أبي (حامد) إلى قريته.. يحمل بعض الغنائم.. لأول وهلة.. شاهد ابنه.. فتحرك شبق العاطفة.. زانت الدنيا في ضميره.. احتقنت نفسه الشابة بالقوة.. شاهد نفسه لأول مرة.. شاهد ولده (محمد).. في حينه.. قرر أن يبني حياة جديدة.. مميزة.. ومختلفة لهذا الابن. دخل نادي الآباء.. بدأ السفر الحقيقي.. بدأت مسئولية المستقبل.. كنت عمودها دون علمي.. تشكّلت ملامح التغيير.. رؤيته لي رسمت طلائع البناء وملامحه.. الابناء يضعون اللبنات الاولى لبناء جسور المستقبل.. نعم.. كنت من أسس لذلك.. كنت محور خيمة المسئولية.. فتحت أبواب المستقبل أمام أبي.. عززت في نفسه قوى.. وفجرت مكامن قوى أخرى.. كنت هدف القرارات المهمة لصالح (محمد).. طفل لم يدرك حتى وجوده.. مع تلك الأعمال الشاقة والمهام والمسئوليات.. تنزع المرأة عواطفها.. تنسج منها لباس حماية.. تنشره على أبنائها عاطفة وبردا وسلاما.. حُبّا وخوفا وبناء.. قسوة الظروف تخلق صرامة الموقف لصالح الأبناء.. كجزء من هبوب نسيم عاطفتها عليهم.. كنتيجة.. تصبح المرأة (عزوة) الرجل مهما علا شأنه لكنه إلهام الأبناء للآباء. قصة الحياة تكمن في الأمانة.. كل طفل مشروع أمانة.. للوالدين وللمجتمع وللدولة.. كلكم راع وكل راعي مسئول عن رعيته.. تلك فلسفة بناء الإنسان.. ينجح من يعتنقها في تحقيق مستقبل أفضل.. مبدأ يمثل منتهى فلسفة وأمانة المسئولية.. وحتى السفر جزء منها.. وقد يكون بسببها. توفي جدي (علي) قبل ولادة أبي (حامد) بشهور.. موت مؤلم في غياب المستشفيات والامكانيات.. في زمن أربعينيات القرن الماضي.. مات بآلامه ومعاناته من أوجاعه.. انفجرت الزائدة الدودية.. تألم حتى مات.. رحمة الله عليه.. يصف عمي (فرحان) حالة أبيه بطريقة تعبّر عن فاجعة لطفل لم يتجاوز السادسة.. لكنه كان يدرك أبعاد النتائج. حالة اليُتم مفيدة لمستقبل الأيتام بشرط إجادة إدارة هذا اليُتم.. تاريخ المعاناة لا يعيد نفسه إلا على الأغبياء.. كل شيء يمكن توريثه.. فقرر أبي (حامد) أن يجنبني توريث معاناته.. فكنت كما ترون عالما.. وكاتبا عن جذور أسفاره.. الأسفار مستمرة مع كل جيل وفي كل زمان.. كجزء من متطلبات بناء الإنسان.. وهذا جزء من هدف الكتابة. وكعادة النّساء في القرية.. يتحولن إلى ملاحم بطولية.. يفرضها واقع الحال.. يتحولن إلى نموذج للتضحة.. وللقوة.. وللصبر.. ولأدوات البناء.. يصنعن لأبنائهن أطواق النّجاة والنجاح.. وفي غياب الأب.. تصبح التربية الفولاذية مهمة الأم ومهنتها.. ليصبحوا في وضع وحال نفسي أقوى من الصخر.. أشد بأسا من ظروف الحياة القاسية.. هو السعي نحو النّجاة.. يُجهزن أيتامهن للنجاة بأنفسهم من شباك غدر الحياة.. بفعل السّيئين والطّامعين.. لا ينقرضون عبر الأزمان.. لكنهم يتجددون بصور وأشكال مختلفة. مع تلك الأعمال الشاقة والمهام والمسئوليات.. تنزع المرأة عواطفها.. تنسج منها لباس حماية.. تنشره على أبنائها عاطفة وبردا وسلاما.. حُبّا وخوفا وبناء.. قسوة الظروف تخلق صرامة الموقف لصالح الأبناء.. كجزء من هبوب نسيم عاطفتها عليهم.. كنتيجة.. تصبح المرأة (عزوة) الرجل مهما علا شأنه.. يقول الفرد مفتخرا.. أخو فلانه.. ويقول.. أنا ولد فلانه.. فخرا وقوة وحفظ حقوق.. هذا هو الوسام الأعلى الذي يمكن أن تحصل عليه سيدة في حياتها.. تسافر سمعتها بين الأجيال كقدوة وركيزة حياة مهمة.. ظل أبي (حامد) يحمل اسم أمه حتى موته.. (حامد بن عليّة).. كان يفتخر بهذا الاسم.. وفي بطاقة الاحوال (حامد بن علي).. وتلك من غنائم النساء في عراكهن مع الحياة ومع الرجال. هكذا تربي أبي (حامد).. إلى أن أصبح شابا ممشوق القوام.. بطول يقترب من المترين.. فأطلقوا عليه (حامد الطويل).. اهتمت أمه بتربيته بجانب أخيه.. كانت تغدق عليه حنانا ملموسا واسع المعالم.. اهتمت بكل شيء فيه.. حتى شعر رأسه تركته ينمو بحرية.. تجدله وتهتم بتمشيطه ودهنه وتنظيفه.. كان طول شعر الرأس عادة وزينة. سافر بشعره الطويل محمولا على أكتافه.. عاد من أول أسفاره بدونه.. هناك مسئوليات أكبر أهمية تحتاج إلى عناية واهتمام.. تحولت الاهتمامات في الأسفار وتبدلت الرؤية.. تعددت المهام.. بدأت الدروس تتوالى وتتراكم.. ورصيد الخبرة ينمو كسند. كان والدي (حامد) محظوظا كجيله.. كان السفر بوابة الحظ.. نقله إلى عوالم أخرى قبل أن يتورط في اتقان مهارات الزراعة الفقيرة.. وقبل الوقوع في قبضة حياتها القاسية.. قرر السفر مع كل أقرانه.. بكته أمه بحرقة وألم.. وحزن عظيم.. لكنها كانت أمامه قوية الشأن والشخصية.. تحثه وتدفع نحو السّفر. أم عظيمة.. كانت تنحت مستقبله.. مكوثه بجانبها لا يضمن الحياة الكريمة لهم جميعا.. السفر للرجال.. تلك كلماتها التي حفرت للرجولة معنى.. وللسفر قيمة ومعيارا.. ومهدت دروب أبي في أسفاره.. من أجل بناء ينتظرونه.. ويستمر السفر بعنوان آخر. twitter@DrAlghamdiMH