في أحد المحلات كنت أقلب سلعة وأنا متردد في الشراء فحاول العامل الآسيوي إقناعي بجودتها لكنه لم يفلح في دفعي للأمام فبادرني بقوله: (هذا كويس كله نفر شيل)، وفي هذه اللحظة حاولت سؤاله عن جدوى استخدام هذه العبارة مع الزبائن فأوضح لي أن الزبون يحسم أمره غالباً عندما يعلم أنه يسير مع مزاج الناس الغالب، والرغبة في «التقليد» تحسم التردد عند الشراء. الإنسان بطبعه كائن «مقلد» ويحب أن يحسم الآخرون قراره نيابة عنه، والأطفال يحتاجون للتقليد بشكل كبير خاصة في بداية حياتهم لأن «التقليد» عندهم وسيلة للتعلم، فمحاكاة الجاهل للمتعلم هي وسيلة جيدة للتعليم، والمجتمع المتخلف يحتاج لمحاكاة المجتمع المتقدم في كثير من الأشياء التي تخلف عنها، والخطورة تكمن في الاستسلام للتقليد ليفرض الآخرون قراراتهم علينا. الأعراف والتقاليد الاجتماعية تسيرنا على نوع من البرمجة السلبية التي تُسلب فيها إرادتنا ونسير في كم هائل من تصرفاتنا وفق ما «تعودنا» عليه، وتكون أعراف العادة سلطة تعزز فينا الشخصية المقلدة على الدوام. خطورة «التقليد» تكمن في إلغاء الشخصية المبدعة داخلنا، فالمبدعون أناس ثاروا على التقليدية وأعطوا لأنفسهم مساحة للتفكير بعقولهم لا بعقول الآخرين، وسمحوا لأنفسهم في أخذ قراراتهم بأنفسهم لا بالوكالة عن الناس. البحث عن «السلامة» والشعور ببر «الأمان» يجعلنا نبحث عن خيارات من سبقونا، ولذلك تجدهم يرددون المثل القائل: (الموت مع الجماعة رحمة)، فالتقليد يحمينا من تحمل مسؤولية قراراتنا، وننسى في خضم هذه القرارات الآمنة أننا عشنا حياتنا وفق رغبات غيرنا، وحرمنا من أن نكون نحن كما نريد ونؤمن. التربية على «التقليد» المستمر والمحاكاة الدائمة يورثنا ذهنية كسولة لا تحب البحث عن الأفضل، وتكتفي باستهلاك ما فكر به الآخرون من قبلي. «التقليد» في أحيان كثيرة يعبر عن عقدة النقص عندنا، فتجد الأضعف يقلد الأقوى، والمغمور يحاكي المشهور، والفقير يقتنع بخيارات الغني، وهذا يترجم إحدى لغات فقد الثقة بالنفس. كل الحديث السابق لا يعني أني ضد «التقليد» على الدوام، فالتقليد هو إحدى الخطوات المهمة في الإبداع والتطوير، وكلنا يتذكر قصة ولدي آدم عندما قتل قابيل أخاه هابيل، فرأى غراباً يدفن غراباً آخر ومنها اقتبس قابيل فكرة دفن البشر تحت الأرض، فنقل التجربة من الحيوانات إلى الإنسان هو إبداع أنجبه التقليد. المبدعون والمميزون من حولنا نجحوا لأنهم تحرروا من رق «التقليد»..