منذ صدور كتابه (العمل المفتوح) عام 1962م، وامبرتو ايكو يشغل مساحة كبيرة ليس في الثقافة الاوروبية فقط ،ولكن في الثقافة و الفكر العالمي، إذ توالت اعماله الفكرية والفلسفية والأدبية تباعا ليقدّم الى الساحة الثقافية (يوميات بالحد الأدنى) 1963م ،ثم (البنية الغائبة) 1968م ثم (نظرية في علم الرموز والعلامات) 1976م، و(حدود التفسير) 1990م، و(ست نزهات في الغابة الروائية) 1994م، و(ان تقول الشيء نفسه تقريبا) 2003م. ويُفاجئ ايكو المفكر والفيلسوف والباحث الجميع ،وبعد أن وصل الخمسين من العمر بعملٍ روائيّ متأخر في حياته ،هو النموذج المضاد للروائي المبكر بحسب اعترافه في حوار أُجري معه مطلع هذا العام 2004م. إنها روايته الأولى (اسم الوردة) التي تحدَّثت عنها كلّ الأوساط الثقافية والأدبية ومنحته شهرةً واسعة خارج دائرة النُّخبة المثقفة.. كان ايكو قد ناهز الخمسين ،وبتلك الرواية الاستقصائية التي تدور أحداثها في القرون الوسطى مستعيدة جدليّاتها الإيديولوجية ومستخدمة في بنائيّتها ادوات الثقافة الشعبية.. هيمن ايكو الروائي على ايكو المفكر والباحث والفيلسوف. الرواية تُرجمت إلى 32 لغةً و وزّعت 15 مليون نسخةٍ حسب إحصائيات ايكو. وبعد أن اختطفت السينما الرواية ليُخرِجها الفرنسي جان كلود فيلماً (1986) انفرط السيل الروائي ليُقدِّم ايكو (بندول فوكو) 1988م، و(جزيرة اليوم السابق) 1994م و(باودلو ينو) 2000م . وروايات ايكو بقدر بنائيّاتها التاريخية او البوليسية او الخيالية تبدو روايات (فكره) واحتفاء بالكلمة وتحولاتها وتزخر بالثقافة. في حوار معه يسترجع ايكو ذكرياته مع الكتابة الروائية فيقول: عندما قدمت اطروحتي عن (توما الاكويني) عام 1954م ،وجّه لي أحدُ المشرفين ملاحظة مفادها أنني صنعتُ الأُطروحة كما لو كنت أروي قصةً بوليسية، وقتها أدركت أنه على حقٍ إذ كانت أُطروحتي كذلك (قصة بوليسية) لكن المشرف كان على خطأ ايضا لأني مقتنع بأن الباحث المتمرّس والبارع يجب ألّا يكتفي بعرض استنتاجات بحوثه، بل أن يروي كذلك (قصة) البحث ،ولذا أَعتبر أن نصوصي النقدية ومحاولاتي البحثية تنتمي الى الكتابة الروائية: إنها قصصٌ بوليسية اعمل على حلِّ عناصرها ،وأبرز الحبكة فيها والضحايا والمذنبين وعواقب افعالهم ،ويؤكد ايكو أنه لم يفعل في كل حياته سوى كتابة الروايات وهي شغفه الحقيقي. ورغم صعوبة قراءة أعماله النقدية والفكرية بالعربية لسوء الترجمة أحياناً ولدهشةِ المترجمين وحيرتهم إزاء العملِ المترجم إلّا أننا لا نستطيع أن نتجاهل تلك الحاسة الروائية عند ايكو في اعماله البحثية، وبتعريف ايكو للرواية والحس الروائي يرى أن رولان بارت كتب روايات رائعة ألّا أنها كانت نصوصاً بسيطة، ويعترف ايكو أنه بدأ في كتابة الرواية بشكلها المتعارف عليه لِمحض التسلية والمتعة الشخصية. هكذا ايكو الروائي نموذجٌ للمفكر والمثقف الواعي لإبعاد أطروحاته والذي نطرحه مثالاً لنُقَّادنا ومُنظِّرينا ،حينما يكتبون او يُترجمون إذْ يضعوننا في متاهة غريبة من غابات المصطلحات والأفكار الشاردة.