تسألني صديقة بين فترة وأخرى.. هل مازلت تفتقدين الرياض؟ وإذا ما تلعثمت الكلمات في حلقي والتصقت الحبال الصوتية بالقصبة الهوائية وثار الحنين.. تتبعه بسؤال أشد وطأة «ماذا تفتقدين فيها بالله عليك؟» وصدقاً قالت.. فمن لم يولد بها لا يدري! لا تصدقوا مطلقاً أن للحب أسباب.. فإذا بحثت عن أسباب فأنت في طريقك نحو انتزاع الشيء من قلبك ولم تجد بعد سبباً مقنعاً لبقائه.. كانوا يقولون قديماً إن النفس تهفو لمن تحب.. وتبشّ عند سماع اسمه أو رؤية صفحة وجهه، لا إرادياً يختطف منك بسمة أو بريقا في العين فيفتضح أمرك، وأنا من جانبي أؤمن بأن عفوية «فزة» النبض في قول «يا هلا» تختلف عن «أهلاً» إذا ما جاوبت حبيباً على الطرف الآخر! تحدث الحالة المربكة كلما سألتني هذه الزميلة لتطوقني بدفء الوطن موشحاً في غلالة من سؤال.. فأجبتها بعد إلحاح: «أفتقد بائع البقالة التي بجانب بيتي!» وللتوضيح فقد كنت أفتقد «تنكات» الكليجة التي يودعنها لديه نسوة من القصيم ممن يبرعن في إعدادها على طريقة «شغل بيت»! أن تكون شديد الارتباط بالمكان فهذا عجز، أن تسمح للأرض أن تعيقك عن تقدمك في مسيرتك فهذا تكبيل.. ولو حكّمت العقل فستعلم أن كل الأماكن جميلة لو رأيتها بعين الاكتشاف والولاء.. وأن الموضع الذي يحبك فعلاً سيسكن داخلك أينما رحلت! في المنطقة الشرقية التي تبعد عن الرياض مسافة بسيطة قياساً بغرب المملكة وجنوبها وشمالها، الارتباط وثيق جداً بين أن تكون العاصمة بالوسط ومدن كالعرائس والواحات من حولها، كل ذي طبيعة مجتمعية مختلفة وإن كان الشرق والغرب يتقاطعان بكثافة في الكثير من العادات والتعاملات الإنسانية وحتى بعض المفردات! التي من بينها مفردة «نتنغص» من الغصة بالحلق إذا ما أكلت طعاماً يحبه من تحبه! وفي الغربية يشيع استعمال المفردة ذاتها التي درجت على الطعام ثم انسحبت على كل ما يثير الحنين.. للأمانة شعورك هنا بالاغتراب سيزول بعد أسبوعين تقريباً والوصفة السحرية الوحيدة هي أن تفرّغ روحك من كل الضجيج وتذهب لإلقاء نظرة على البحر.. الذي سرعان ما سيطالبك بإلقاء جعبة غضبك وحنقك على الآخرين والإذعان إلى التسامح فحسب، وهذا سيؤدي لاشعورياً إلى أن تذوب بأهلها فالغربة الموجعة يمكن أن تقض مضجعك وأنت بين أهلك وناسك.. الأسرة الكبيرة هي الوطن على مصراعيه، وكثيرون أعرفهم يعيقهم عن إحراز بعض الظفر الذي أتاحه الله لهم من رزق أو مكانة أو نقلة نوعية في تفكيره ومصيره الشعور بالرعب والذعر من الانتقال خارج نطاق منطقتهم أو حتى مدينتهم نفسها.. فتجده لم يغادرها يوماً ولا يعرف عن بقية مناطق المملكة سوى موقعها على الخريطة إن كان قد تجاوز الثانوية بنجاح.. الأسرة الكبيرة هي الوطن على مصراعيه، وكثيرون أعرفهم يعيقهم عن إحراز بعض الظفر الذي أتاحه الله لهم من رزق أو مكانة أو نقلة نوعية في تفكيره ومصيره الشعور بالرعب والذعر من الانتقال خارج نطاق منطقتهم أو حتى مدينتهم نفسها.. فتجده لم يغادرها يوماً ولا يعرف عن بقية مناطق المملكة سوى موقعها على الخريطة إن كان قد تجاوز الثانوية بنجاح.. حضرت قبل أسبوع ختام مهرجان الساحل الشرقي على ضفاف كورنيش الدمام وتأثرت كثيراً بحديث أحد العارضين عن صيد اللؤلؤ، بدا عليه الوجوم وطيف خفيف من الحزن.. فسألته وكان وحيداً: «هل مازلتم تمارسون هذه المهنة الجميلة؟ هل هناك لؤلؤ حقيقي؟» انطلق هادراً كالبحر يقص عليّ ذكريات شباب وشهور قضاها في البحر هو ومجموعة الغواصين بحثاً عن دانات الدنيا، سألني «هل تعرفين ماذا نبيع الآن؟» فأجبت بالنفي، قال نبيع الصدف وأشار بيده إلى مجموعة اصطفت أمامه وبلهجة محلية سرعان ما تجد صداها في أصقاع نفسك إذا مضيت، قال «يسوون منه تجميل للحريم»! فابتسمت وعلمت أنه يقصد منتجات تقشير الوجه وكريمات تنظيف البشرة التي يدخل اللؤلؤ في تكوينها. وفي محاولة لتطييب خاطره رحت أشرح له أن ذلك يعني استمرارية الحاجة لهم كصيادين ولولا المحار لم يوجد اللؤلؤ، فقال ما معناه أن الشركات الأجنبية الكبرى تشتريه منهم ولا تهتم لأمر اللؤلؤ، للاكتفاء بالصناعي الذي تتزعم انتاجه اليابان.. غصته جعلتني أشعر أني من هذه الأرض، وأني ولدت في البحر.. والمهرجان بكل فعالياته نقل لي وللحضور الذي يبدو في معظمه من الرياض نظراً لمواكبته لإجازة الربيع المدرسية، نقل المهرجان في مساحة محدودة تاريخ عظيم للمنطقة بعبقه الفني عبر أهازيج البحر التي كان يتسلى بها الصيادون أثناء إقامتهم في البحر لشهور، ومن خلال سيدات مكافحات يمثلن مشاريع الأسر المنتجة من كل مكان بالمملكة. تويتر: @Rehabzaid