من نزول القرآن الكريم تغير وجه الثقافة العربية، فلم يعد بالإمكان الحديث عن ثقافة عربية وأخرى إسلامية.. امتزجت العروبة بالإسلام ولم يعد بالإمكان الفصل بينهما. الأمم والثقافات تتمركز حول نصوص بشكل أو بآخر.. الأديان والأفكار البشرية تعود إلى نصوص تأسيسية.. في الأفكار البشرية يتم استبدال النصوص التأسيسية بنصوص تأسيسية أخرى بين زمن وآخر.. أما في الأديان فيكون النص المقدس هو المركز الذي ينتج حوله منظومة من النصوص المفسرة والشارحة.. وهي بدورها تتسرب إلى كل النصوص والخطابات.. بل تصنعها وتنتجها. أعتقد أن هذه ميزة وخاصية للأمة الإسلامية، أنها تتمركز حول النص الديني، وإن كان المستشرقون وبعض المفكرين العرب يعد ذلك من الإشكاليات، ومن معوقات التقدم والنهوض، ليست المشكلة في التمركز حول النص بل تكمن المشكلة في التعامل معه، في الأسئلة التي تطرح عليه ويعتقد القارئ أن النص سيجيب عنها، وفي مقدار التفصيل في الجواب الذي يسعى القارئ إلى استنطاقه فيه أثناء القراءة، وبالتالي نحن بحاجة ابتداء إلى توضيح الأسئلة التي جاء النص ليجيب عنها والأسئلة التي لم يأت ليجيب عنها، وعن مستوى إجابة النص، هل تحدث النص في التفاصيل، أم أننا نقحم رأينا في لغته الواسعة وندعي أنه قال ذلك؟! في المجتمعات التي تشهد حالة متقدمة من حرية الرأي، فإن كل من له تفسير للنص الديني سيعبر عنه علانية، وكل من له انتقاد على هذا الرأي سينتقده علانية أيضا، وبإمكانه كذلك أن يطرح رأيا بديلا.. لا وجود للاحتكار ولا للهيمنة.. تبقى الأفكار في مجال التداول والتدافع السلمي.. والناس تسمع وتقرأ وتفكر.. وتختار ما تريد.. وتعبد ربها بما تعتقد أنه الصواب وأنه الحق. حين يفرض على الناس رأي ديني واحد، ولا يعود بإمكان الفرد أن يختار رأيا دينيا إلا في هامش محدود، ويكون ثمة رأي يسمى الصراط المستقيم.. وآراء أخرى هي الضلال والزيغ والانهزام والتمييع والتغريب... إلخ، حينها تحدث عملية عكسية مدهشة في مركزية النص الديني. في المجتمعات التي تشهد حالة متقدمة من حرية الرأي، فإن كل من له تفسير للنص الديني سيعبر عنه علانية، وكل من له انتقاد على هذا الرأي سينتقده علانية أيضا، وبإمكانه كذلك أن يطرح رأيا بديلا.. لا وجود للاحتكار ولا للهيمنة.. تبقى الأفكار في مجال التداول والتدافع السلمي.. والناس تسمع وتقرأ وتفكر.. وتختار ما تريد.. وتعبد ربها بما تعتقد أنه الصواب وأنه الحق. في المجتمعات الأخرى التي تعاني من مشكلة حقيقية في حرية الرأي -وخصوصا الرأي الديني- فإن النص في الواقع لا يعود هو المركز.. بل تصبح مجموعة الأفكار الخاصة بالجهة المسيطرة هي المركز.. تتحول نصوص الأيديولوجيا الدينية إلى النص المهيمين.. ويتم توظيف النص الديني بشكل كامل من أجل إضفاء الشرعية عليه.. هنا يتراجع دور النص الديني وتتقدم الأيديولوجيا. لا يكتشف الناس في هذه المجتمعات ما يحدث لهم.. حين يذهب الرجل إلى المسجد، وحين تمسك الأم بمصحفها في البيت، وحين يجلس الأطفال في حصة القرآن في المدرسة.. إنهم يقرؤون القرآن بعقل ديني تمت صناعته مسبقا.. بعيون تمت برمجتها.. حتى الشعور والروحانيات تتم برمجتها كذلك.. إنهم يضفون الإيمان والحب والإنتماء من خلال القرآن على كل ما سمعوه سابقا من الخطابات الدينية.. لذلك لم يعد بإمكانهم التمييز بين هذه الأفكار التي هي في حقيقتها فهم من (فهوم) متعددة للنص الديني.. وبين النص الديني نفسه.. فقد باتوا يرونه شيئا واحدا.. ويرون المخالف لهم يخالفهم عن عمد وإصرار وعناد.. لذلك فكل مخالف إما صاحب هوى أو إذا تسامحوا معه نسبيا قالوا إنه يعاني من مشكلات نفسية. إنهم يقرؤون آيات المؤمنين، وتأييد الله ونصره لهم، فيقرؤون أنفسهم في ذلك الموضع، ويقرؤون الآيات التي تتحدث عن الكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض وزيغ والمرجفون، فيرون كل مخالف لهم هناك.. في الطرف الآخر.. ولا يجدون إشكالا في الاستشهاد على ذلك. والعجيب أنه في هذه المجتمعات لا يتمكن الناس من رؤية التناقضات في الفكر السائد (الأيديولوجيا).. إنهم لا يرون كيف يتم الاستدلال على الشيء من النص الديني.. فهم يعانون من الذاكرة القصيرة.. وفي كل مرة يتم فيها إضفاء الشرعية الدينية على الخطاب البشري تنجح العملية. ليست القضية في موافقة الرأي السائد أو في معارضته.. إنما في الخطر الذي يواجهه النص الديني حين تغيب حرية الرأي.. إنه في الواقع يتعرض للاحتواء الكامل -كألطف تعبير- من قبل جهة واحدة، وبالتالي يتم تفريغ النص من كل المعاني الأخرى التي يحتملها.. وهو ما سيجعل هذه الجهة تستنطق النص في كل صغيرة وكبيرة، لأن الإيمان به إيمان بها، بل وتسعى لنشره قدر الإمكان. تويتر: @alhasanmm