القراء الذين قرأوا حكاية ذلك الفيلسوف اليوناني الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد والذي اسمه ديوجين.. يعرفون أنه كان يحمل مصباحا في رابعة النهار بحثا عن الحكمة، وفي هذا العصر هناك من يحملون مصباح ديوجين وهم في رابعة النهار، لكنهم لا يبحثون عن الحكمة بل يبحثون عن السراب، يبحثون عما يرضي نوازع الغل في نفوسهم، وبالتالي هم لا يعجبهم العجب، ولا يرضيهم شيء مهما بلغ من الجودة والإتقان والأهمية، بالنسبة لهم أو لغيرهم. وهم مثلا عندما يرون منجزا تنمويا في أي مجال، وبدلا من مساندته، والحفاظ عليه، والمشاركة في تطويره، بالرأي السديد والموقف الإيجابي.. نراهم يسارعون إلى إلصاق كل العيوب به، دون النظر إلى ما فيه من جوانب إيجابية، تماما كذلك الذي (يرى الشوك في الورود ويعمى.. أن يرى الندى فوقها إكليلا)، كما قال إيليا أبو ماضي في إحدى قصائده التي تفيض تفاؤلا وإيجابية. هؤلاء الذين لا يرون من الكأس سوى نصفها الفارغ هم في الغالب أقل الناس إنتاجا، لأن انشغالهم بالبحث عن العيوب تحت ضغط التشفي لظروف نفسية أو اجتماعية عانوا منها في مرحلة ما من مراحل حياتهم.. أو بدافع المصلحة الذاتية التي يرجونها لأنفسهم، وكل ذلك لا يتيح لهم الوقت أو التفكير للمشاركة في البناء، وكأنهم قد خلقوا للهدم وليس للبناء، فلا شيء يعجبهم، ولا عمل يرضيهم، مع أنهم عاجزون عن المساهمة في إنجاز بمثله، أو بما هو أقل منه، بعد أن تبرمج تفكيرهم على انتقاد كل ما حولهم، حتى المنجزات الخالية من العيوب مع أن الكمال لله سبحانه، فإنهم لا يتورعون عن اختلاق شتى العيوب بها. هذا النوع من البشر يسوؤهم نجاح الآخرين، ويضايقهم تفوق غيرهم في أي مجال، وكأن لديهم مقاييس أخرى للنجاح أو التفوق، وهو الأمر الذي يدل على خطأ الرأي، وسوء النية، مع أن مجالات النجاح والتفوق متاحة للجميع، وخاصة لأولئك الذين لا ينشغلون بالرديء على حساب الجيد، ولا يشوهون الواقع على حساب الحقيقة الماثلة للعيان. أرجو ألا يفسر هذا الكلام على أنه رفض للنقد، لأن النقد البناء هو من وسائل تقويم مسار التنمية إذا انحرفت عن جادة الصواب، لكنه يعني عدم شخصنة الأمور، والنظر إليها من خلال نظارة سوداء تطمس الحقيقة، وتشوه الواقع، وتمحو الإيجابيات، وتسيء لأي منجز حضاري في أي مجال من مجالات التنمية، من خلال التصيد في المياه العكرة، فالخطأ البسيط يوضع تحت مجهر التضخيم والمبالغة، وفي ذلك ما فيه من تثبيط للهمم، وكسر للعزائم، وتشويه للواقع، فالنقد مقبول بل هو مطلوب في حالات كثيرة، لكن الإساءة للمنجز الوطني، لا تخدم أحدا، وليس هناك خطأ أكبر من الإصرار على أن الأبيض أسود، وأن الجنة جحيم لا يطاق. إن تشويه الواقع بقصد أو بغير قصد، هو نوع أقرب إلى الهدم بدل البناء، ومن يتبنون مثل هذه المواقف المعبرة عن النقد في غير محله، لا يمكن استساغة مواقفهم العدائية ضد التنمية، وهم ينسون أن وعي المواطن قادر على التمييز بين الغث والسمين، وأن أي انحراف في الرأي لا يمكن تمريره بسهولة على الناس الذين لا يسلمون بظواهر الأمور، ولكنهم يبحثون عن الحقيقة في أعماق هذه الأمور، دون تسطيح أو تشويه، وصل المواطن إلى درجات متقدمة في سلم الوعي الإنساني، والإحساس بالمسئولية الوطنية. من يريد أن يشوه الحقائق فالواقع كفيل بأن يرده على أعقابه، وأن يردعه عن شطحاته وانحراف تفكيره.