كان صعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المسرح السياسي مثيرا، ولافتا، وابتداء من عام 2002 نقل تركيا من التواكل والاقتصاد الخامل المريض إلى الفاعلية وتقليم مخالب الجيش، وقدم نفسه زعيما إسلاميا، إلى درجة أننا ظننا أن الأردوغانية هي «عقيدة» سياسية جديدة، سوف تؤتي أكلها، قبل أن يطلق عليها، أردوغان نفسه، النار ويغتالها ويحولها إلى مجرد «تكتيك»، سياسي فردي يتسم بالذرائعية الانتهازية الشديدة والمؤامرات والتقلبات المتهورة، حتى بات أردوغان أشد خطرا على الأردوغانية من أي خطر آخر. وبدأ وهج الأردوغانية يتراجع بحدة، وآخرها الهزيمة الموجعة لحزب العدالة والتنمية في أهم معاقله، بعد أن وضحت للأتراك انتهازية أردوغان وتهوراته. وكانت إسلامية أردوغان مجرد ركوب للموجة، ولا تكلفه سوى خطابات استعراضية، فهو لم يشأ تغيير العلمانية المتطرفة في تركيا، مع أنه حطم كل ما يعيق زعامته الشخصية. وكانت انتهازية أردوغان مكشوفة، إذ كان يتحدث عن فلسطين بعصبية مثيرة، لكنه لم يمس العلاقات التركية - الإسرائيلية القوية والحميمة، بل إن إسرائيل ترسي علاقات مع تركيا أعمق من أي بلد آخر في العالم تقريبا، (لا توجد عشر رحلات يوميا من تل أبيب إلى أي مدينة أخرى في العالم سوى مع إسطنبول). ويطرح أردوغان نفسه زعيما إسلاميا لكنه يبجل كمال أتاتورك، أشد أعداء الإسلام التاريخيين، الذي عمل جاهدا لهدم الإسلام، وجرم رفع الأذان باللغة العربية، ومنع الحجاب، وألغى الخلافة التي يتلوى بها أردوغان. وانتهازية أردوغان حاولت توأمة المستحيل، وتقديم «كوكتيل» الإسلامية والعلمانية والقومية، وصاحب ذلك تقلبات سياسية وخطابيات استعراضية متهورة وصبيانية أحيانا، منها أن أردوغان عام 2013 هاجم شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، بأسلوب صبياني ينافي أي رشد دبلوماسي، حتى اضطرت السفارة التركية في القاهرة للاعتذار عن الألفاظ التي تفوه بها أردوغان. وفي عام 2015، أسقطت تركيا مقاتلة روسية، فردت روسيا بإجراءات عقابية، فانبرى أردوغان يهدد روسيا ويتوعد ويرفض أن ينحني، لكنه بعد أشهر اضطر لزيارة موسكو وتقديم اعتذار مذل للرئيس بوتين. وبعد إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، عاصفة الحزم عام 2015، أعلن أردوغان تأييده، وكان يريد انتهاز الفرصة ليجني ثمارا، ولما لم يجد تلبية، أرسل رئيس وزرائه إلى إيران ليوقع معها عقدا بعشرات المليارات. وأدلى أردوغان بتصريحات نارية ضد بشار الأسد ونظامه، وكدنا نظن أن تركيا سوف تحرر سوريا وتسلمها للسوريين، لكن ما لبث أردوغان أن انحنى وانخرط في التحالف مع إيرانوروسيا وترسيخ الاحتلال الإيرانيلسوريا. وفي أزمة قطر، اختار أردوغان دعم قطر وابتزازها. وفي أزمة مقتل جمال خاشقجي، بدلا من الإدارة الراشدة للقضية، منعته رغبته العارمة المتهورة في الانتقام واستخدام القضية للإساءة إلى المملكة، فخسر دعم المملكة وثقلها الاقتصادي. وانتهز أردوغان محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016 ليغلق مئات المدارس والجامعات والمكاتب التابعة لخصومه السياسيين، بما فيها وسائل إعلام، وليطرد مئات الآلاف من وظائفهم، ويسجن عشرات الآلاف، بمن فيهم إعلاميون وصحفيون وكتاب. وتوجد مسألة أخرى هي أن أردوغان كان يروج أن إدارته قد خلصت تركيا من الديون وأن الديون صفر. واكتشف لاحقا أن تركيا مديونة بنصف تريليون دولار، هي ديون الشركات التركية، فانهارت الليرة العام الماضي. وهذه التقلبات الأيديولوجية والسياسية لم يتحملها الزعماء التاريخيون لحزب العدالة والتنمية الذين همشهم أردوغان بعد أن وجد أنهم لم يعودوا يتآلفون مع أساليبه وانتهازيته الجامحة. ولمحوا إلى أنهم يسعون لتأليف حزب مضاد لأردوغان وأساليبه. وبسبب كل هذا تبدأ الأردوغانية في الإفصاح عن حقيقتها وأنها مجرد تكتيك وانتهازية، وعروض حواة، وتبديل الطواقي، وتبدأ في الانهيار.