عرفتُه عام 1371 وعمري عشر سنوات. سعدتُ بأن كنت ضمن مجموعته -رحمه الله- في السفر من مكةالمكرمة إلى منطقة الباحة (منطقة الظفير آنذاك). أعضاء المجموعة يتحدثون عنه بإجلال ويمنحونه قدرا كبيرا من الاحترام. إنه الأستاذ سعد بن عبدالله المليص. ومعه ابن عمه أحمد بن محمد المليص. جميل جدا أنهما سيرافقاننا على سيارتنا الناقلة للبضائع والأفراد. شيء طبيعي سيركبان وحدهما مع السائق في مقدمة السيارة. خرجنا من مكة قبيل المغرب وتوقفت بنا السيارة بُعيد صلاة العشاء في محطة الشرايع خارج مكةالمكرمة. نزل الركاب وأنا معهم وهرعنا إلى الأستاذ المليص نؤدي واجبات التحية والاحترام. جلسنا على كراسي مصنوعة من خوص النخيل والخشب. طلب المليص عددا من أباريق الشاي وكلها محلاه بالسكر. وجاءوا بأنواع من الطعام، خبز (شريك) وحلاوة طحينية وجبنة بيضاء وزيتون أسود. قمتُ والحمد لله بملء أكواب الشاي وأدرتها عليهم بدءا بالأستاذ المليص الذي امتنع وطلب مني البدء من اليمين فأبى رفاقنا وكنا كما أذكر تسعة أو عشرة وقالوا «أنت يا مليص أستاذنا وشيخنا ونبدأ بك بعد الله تقديرا لمقامك وترحيبا بجهودك في تربية أبنائنا ونشر العلم والتعليم في قرانا وأوديتنا وجبالنا». سارت بنا السيارة ولها رنين وونين يعانقان الأودية والجبال التي على طريق الطائف من مكةالمكرمة. وفي السيل الصغير توقفت السيارة لينام الركاب سويعات قبل الفجر. تسابقتُ مع (معاون السائق) وأوقدنا نارا كبيرة للاستدفاء بها ولازمتُ مكاني إلى جانب موقد النار. نام الركاب بما فيهم مجموعتنا. كثيرون أخذوا فرشهم للنوم إلى خارج السيارة، والقليل مكثوا مكانهم للنوم على ظهر السيارة. صباح اليوم التالي وأظنه يوم أربعاء اتجهنا إلى الطائف حيث استأجرنا غرفة للراحة والغداء وبعد الظهر تحركنا صوب الباحة. دنا الليل وسرنا فيه إلى ما يقارب العاشرة ليلا بالتوقيت الغروبي. نزل السائق وطلب من الركاب النزول وتجمع أعضاء مجموعتنا وتسابقتُ متعاونا مع معاون السائق لإيقاد النار وصناعة الطعام. تعشينا وكل ذهب إلى السيارة ليأخذ فراش نومه إلا أنا. بقيت وحدي بجانب موقد النار.. وأخذتني نعسة إلى خارج الدنيا والحياة (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع). فجأة استيقظتُ ولمحتُ الأستاذ المليص يرفع يديه داعيا ثم سجد وجلس للتشهد. تظاهرت بالنوم. رآني فناداني باسمي: «سعيد، يا سعيد قم خذ فراشك ولباسك ونم». عاد للصلاة، وعدتُ للتظاهر بالنوم. كنتُ نائما رغبة بينما أنا مستيقظ من شدة البرد. أنهى صلاته -رحمه الله- وناداني بصوت يشي بالحزم والجزم: سعيد! يا ولد!! ما عندك فراش قلتُ: نعم. قام فقسم فراشه بيني وبينه. أعطاني مفروشة (زولية) وفرشها لي بجانب الموقد، وأعطاني لحافا صوفا (بطانية) ورتب لي الفراش واللباس وأمرني بالنوم وأمرني أن أقول: بسم الله الرحمن الرحيم. في صباح اليوم التالي هرعتُ لترتيب فراشه والذهاب به إلى السيارة فسألني عما إذا كنت سألتحق بالمدرسة فأومأتُ بالإيجاب قال: أشوفك يوم السبت. المدرسة كانت أربعة صفوف نظامية والصف (الفصل، السنة) الرابع أعلاها.. والطلاب يزيدون على ستمائة طالب وكان مع المليص أربعة مدرسين يتولون مسؤولية تعليم الطلاب ومسؤولية نشر الوعي والمعرفة بين الكبار. الهيكل الإداري للمدرسة كان كالتالي: الأستاذ صقر بن سعيد بن صقر أمد الله في عمره على الطاعة وكيل المدرسة والأستاذ عطية بن محمد أبو رياح -رحمه الله- مدرس علوم دينية والأستاذ علي بن حمود -رحمه الله- مدرس مناهج متفرقة والأستاذ عثمان المنصوري مدرس قرآن كريم -رحمه الله. بقدر ما كانت المدرسة مركز تعليم فقد كانت مركز استقبال لأولياء الأمور وللمهتمين بأمور التعليم. حول بيته في قرية الريحان إلى مكتبة عامة للقراءة المباشرة وللاستعارة من كتبها.. وهذا للكبار والصغار. رمم منزلا بجوار منزله الآخر في قرية عرا وبجوار المسجد الجامع وفرشه وحوله إلى مجلس للذكر وللدراسة. نظم لنا، طلاب السنة الخامسة درسا في القرآن العظيم: تلاوة، وتفسيرا، وإعراب بعض الآيات. تعلمنا في ذلك المنزل من النحو ومن التوحيد والفقه والتاريخ ما أغنانا -وهذا الفضل تحديدا فيما يخصني شخصيا- حتى تخرجتُ في الجامعة. عمل على تعيين كثير من وجهاء القرى ومن طلابه مدرسين وعينهم في مدارس افتتحها قريبة وبعيدة حتى عمت قرى المنطقة في السراة وفي تهامة، المخواة وقلوة، والمندق والنصباء والعقيق. افتتح على حسابه الخاص مدارس ليلية في قرى متعددة وحث الكبار على التسجيل وكلف طلابه -وأنا أحدهم- بالتدريس فيها. فكانت هذه المدارس نواة لمدارس محو الأمية. أسس جمعية بر خيرية في بني ظبيان.. وأقام حفل عشاء كبيرا في منزله بقرية الريحان للأهالي وندبهم إلى التبرع للجمعية، استمرت سنوات ووزع الأموال على المحتاجين حسب سجلات موثقة ولكن السلطات رأت إيقاف الجمعية إلى حين لأنها لا تمتلك ترخيصا رسميا. سافر إلى الرياضمرات يطالب بافتتاح مدرسة متوسطة ولكنهم بالوزارة نصحوه بافتتاح (معهد معلمين) يجني منه الطلاب مكافأة شهرية نقدية لأول مرة بالمنطقة. ويتخرجون بعد ثلاث سنوات مدرسين بالمدارس الابتدائية.. وأصبح المليص مديرا للمدرسة الابتدائية وللمعهد في وقت واحد. كان -رحمه الله- موضع ثقة مديرية المعارف وبعدها وزارة المعارف التي اعتلى ذروتها صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز وزير المعارف آنذاك (ملك المملكة العربية السعودية فيما بعد). أسس على حسابه الشخصي المدرسة الريحانية الأهلية المتوسطة والثانوية في منزله بقرية الريحان والتحق بها الشباب للدراسة في الأمسيات. ولم تتوقف إلا قبل سنوات معدودات وتخرج فيها العشرات الذين تولوا مناصب مرموقة في التعليم والهندسة والطب.. ولعل معالي الدكتور سعيد بن محمد المليص نائب وزير التربية التعليم السابق أبرز من درس وتخرج في هذه المدرسة الأهلية. ووجود الدكتور المليص اليوم مع شقيقه أحمد هو من خير العزاء لنا في فقد أستاذي وموجهي وشيخي فضيلة العالِم النحرير والمربي الكفء، والوجيه المحترم، رجل الوطن البار الشيخ سعد بن عبدالله المليص رحمه الله رحمة الأبرار. طموحات شيخي المليص لا يحدها حدود. وقد عاش في نفسه منارا للعلم ومساعدا لطلاب العلم. جاءته المنية ضحى يوم الخميس وهو صائم لثاني يوم من أيام البيض 14 رجب 1440 حيث توضأ وصلى الضحى وأنذر أهل بيته بقدوم الموت وتوفي الشيخ سعد بن عبدالله المليص قبيل صلاة الظهر صائما. فقده لا يعوض ولكن لنا في ابن عمه أحمد بن محمد المليص وفي ابن عمته زميلي تلميذه علي بن محمد الكردي، وفي ابن عمه زميلي تلميذه معالي الدكتور سعيد بن محمد المليص نائب وزير التعليم الأسبق وفي سعد وعبدالله شقيقي الدكتور. كما أن رجاءنا إلى الله في صلاح أبنائه الدكتور عبدالله وهو أستاذ بالتعليم الجامعي والأستاذ محمد أنور والأستاذ أحمد والأستاذ عبدالرحمن والأستاذ إسماعيل وهو مذيع ومحلل سياسي مرموق بقناة الإخبارية السعودية والأستاذ ياسر أمل في الدعاء للفقيد والتواصل مع أصدقائه. ونطلب من الله الرحمة للفقيد والصلاح والدعاء لخلفه من بعده. إنا لله وإنا إليه راجعون.