لا شيء يبقى على ما هو عليه، أشياء كثيرة تتغير من حولنا، مدن صغيرة تكبر، ومدن كبرى تتضخم، وأحياء شعبية تضمحل، وناطحات تنبت كالفطر هنا وهناك. لم يعد لملامح المكان الأصيلة مكان إلا في الذاكرة «ذاكرة الكبار» لأننا بتنا أمام هوية جديدة للأمكنة، تتحد فيها السمات الشخصية حد التطابق رخاما، وزجاجا، وقادما جديدا اسمه «الإكلادينج»، مهمته الأساسية نفس مهمة الميك أب، في تزوير الحقائق، وإخفاء العيوب تحت قشرة واهية براقة بألوان في الغالب لا يربطها ببعضها صلة نسب سوى التبرج الفاضح. لا شيء يبقى على ما هو عليه، إلا الأرياف التي انكفأت على نفسها، ولوت أعناقها إلى الخلف، وعادت أدراجها إلى خانة الصفر بعد أن غادرها أهلها، وهجروها، وتنكروا لها، وتركوها ملاذا للعمالة في أحيان، وللحيوانات الضالة أحيانا أخرى. حتى تلك البلدات التي غادرت سمة القرى، وأرادت لقب المدينة، سرعان ما تنكرت لهويتها الريفية، وكأنها عيب يجب التخلص منه أو دفنه، فسارعت إلى تجريف حقولها، ونخيلها، وحولتها إلى مساكن لا يسكنها أحد، أو صفوف من الدكاكين المهملة التي لن تجد من يستأجرها سوى الشمس والهواء، وأكياس النايلون والقراطيس المتطايرة. مؤسف ما يحدث للريف في معظم بقاع بلادنا، مؤسف وموجع هذا النكران له، ولدوره في الحفاظ على هويتنا الأصلية، لأن المدن لا ضمير لها، فهي كبعض التجار، تظل على أتم الاستعداد لبيع أغلى ما تملك في سبيل تحقيق الأرباح، أما الريف في كل مكان فهو سادن الهوية التاريخية، والاجتماعية، والأخلاقية، والأدبية، وحارس كنز التقاليد، هذا على صعيد النسق الاجتماعي، ولن أتناول الجانب التنموي والفلاحي لأننا كما يبدو سلمنا تماما باستيراد غذائنا، واستسلمنا لفكرة النضوب التي تواصلت بين ماء الأرض الشحيح، وهوان عزائم الفلاحين الصغار الذين تجاهلتهم خطط الدعم التي احتفلت ذات يوم بالقمح والأعلاف وحسب، حتى وجدوا أن معاولهم أرخص من تراب الأرض ومن إنتاجها. البعض من أهل الريف، خاصة القريبة من المدن، أخذته الغيرة، فقطع أوصال فلاحته، وحولها إلى استراحات لأيام العطل تحت وهم العودة إلى الجذور، رغم أنه يعرف أنها ما عادت جذورا بعد أن تقطعت أوصالها، وبعدما أفرغت جابية القرية ماءها، وسخرتها لفائض زمن المدينة. سؤالي: لا هوية لبلد من دون ريفه، فمتى نسترد هويتنا في أريافنا التي هجرناها؟.