اختيار أسلوب الحياة والمكان والجار والتخفف من أثقال الحضارة في ظروف النزوح الإجباري وأهوال الحرب ليس أمراً سهلاً، إلا على رجل مثل محمد الجباري الذي يتخذ الأرض بساطه والسماء لحافه. وصفه جيرانه بالرجل الشديد أحياناً وخفيف الظل أحياناً أخرى، وأجمعوا على أنه مكتفٍ ذاتياً ومعتز بطبعه، فلم يطالب بخيمة كبقية النازحين، ولم يشتك من حالة الحرب، وكبير أحلامه أن يجد كوباً من الشاي في ساعة الظهيرة. أبناء الجابري هجروه وذهبوا إلى خيمة من خيام مراكز الإيواء، رافضين العيش على طريقة والدهم، بعد أن تركوا قريتهم الحدودية «الخشل»، ليظل هو متمسكاً برأيه وبرغبته في البقاء حراً بلا جدارن، مع إصراره الشديد على رفض السكن في مدينة بعد النزوح. يقول الجابري متحدثاً ل«الحياة» إن معيشته هذه، التي يسخر منها أبناؤه وبعض الناس هي اختيارية، مشيراً إلى أن رفضه العيش في المدينة بعد النزوح وإخلاء قرية «الخشل» الحدودية كان قراراً شخصياً يتعلق بتحديد مصير فلاح نمت عظامه وشاخت وسط المزارع. لهذا يرى الجابري أن عرض أبنائه الأربعة وبناته السبع بالتنازل عن الرعي ومهنة الفلاحة والانتقال إلى المدينة بعدما استقروا فيها ما هي إلا محاولة من منهم لنزعه من جذوره وغرسها في مكان لا يتسع إلا للجذور الجافة والميتة. يقول: «لا أريد أن أذهب للمدينة لأستلقي على السرير وأنتظر الموت كما يفعل بعض الفلاحين من النازحين الذين يتجاوبون مع أبنائهم للموت في المدن. ويؤكد أنه ما زال قادراً على العمل، «فأولادي الأربعة وبناتي السبع هجروني وانقطعوا عني لأني أرفض الحياة في المدنية وأعتبرها نهاية كل رجل مثلي عاش حياته سيد نفسه، وبين عشية وضحها يجدها سجينة في مدينة الأسمنت والحديد. ويضيف: «لم يكن المال في يوم من الأيام مشكلة بالنسبة لي» فهو يملك حساباً بنكياً كسواه ممن استسلموا لبريق المدنية التي لا تعنيه على حد قوله. ويتابع: «لهذا السبب رفضت مرافقة أولادي، فعاقبوني بالهجر وتركوني وحيداً، فليس لدي عائلة رغم إني تزوجت ست مرات، منهن من ماتت ومنهن من طلقت، وأعيش وحيداً هنا مكتفياً بحب جيراني، وكل ما أتمناه أن يأتيني الموت وأنا على تراب قرية الخشل بين حقولي وعلى صوت أغنامي وعلى طريقة الأحرار مثلي».