نتحدث ونكتب ونتبادل الرسائل الواتسابية والتغريدات التويترية والفيديوهات السنابية، وعبر وسائل أخرى متاحة، عن الإسراف والبذخ بحجة الكرم، بينما لا الإسراف ولا البذخ فيهما شيء من الكرم، وما هي سوى مظاهر خداعة، توحي بثراء من يقوم بها، وربما كان في حقيقته غارقا في الإفلاس، فبعضهم يستدين فوق إمكانياته وقدرته على تسديد دينه، وما ذلك إلا لإقامة حفل باذخ في مناسبة ما، حتى يغطي نقصا يشعر به في نفسه، ويظن أن الناس تهتم بغناه أو إفلاسه، وكل هذه الحالات وغيرها ليست سوى حماقة لكسب رضا الآخرين، والتمظهر أمامهم بما هو بعيد عن الحقيقة، وأرجو ألا يفهم هذا الكلام أنه ضد الاحتفال بالمناسبات المحببة إلى النفس، ولكنه يعني بوضوح أن لا داعي للإسراف والبذخ، وكل ما هو زائد عن اللزوم، فالكرم يأتي من باب شكر النعم، وليس من باب تبديد النعم والعبث بها، والتظاهر بالوجاهة من خلالها. صحيح أن الكرم من صفات العرب الحميدة، لكن «الهياط» لا علاقة له بالكرم، فلا كرم في أن تضم رمال الصحراء أطنانا من الأرز والذبائح، التي تدفن مما يزيد في بعض الولائم، ولا كرم في أن تمتلئ حاويات القمامة ببقايا طعام حفلات الغداء أو العشاء التي تقام في بعض المناسبات العائلية، ولا كرم في أن يستدين المرء ليقيم الولائم بمناسبة أو دون مناسبة حتى يقال عنه إنه كريم، وهو في حقيقته منتوف الريش من الإفلاس، وجيوبه خاوية على خيوطها المهترئة، فهو من المبذرين الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم إخوان الشياطين، والغريب بعضهم يظهر الكرم على حساب غيره، وهذا حال من يستدين ليقيم وليمة باذخة يؤول معظمها إلى حاويات الزبالة، فهو في الحقيقة يظهر الكرم من خلال مال غيره وليس من ماله، وياله من كرم مزيف سيتحمل بسببه مذلة السؤال أو الاحتيال، مع أن «الدين همٌ في الليل ومذلة في النهار»، كما يراه العاقلون من الناس. ولو رجعنا إلى سنوات ليست طويلة جدا، لرأينا الناس لا يجدون قوت يومهم، ويتغربون ويتعذبون للحصول على القرش، ويتحملون من المكابدة والعناء ما لا يحتمل، سعيا وراء لقمة العيش، واليوم - ولله الحمد والمنة - توافرت كل النعم، وأصبحت ميسورة للجميع، فمن أوجب الواجبات المحافظة على هذه النعم، وصونها من الإسراف دون بخل أو تقتير، والمال واحد من أربعة أشياء يُسأل عنها المرء، وقد ورد في الحديث أنه: «لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه». ومن يصرف ماله في الرياء والمظاهر الزائفة.. هو كمن يصرف ماله في الحرام والعياذ بالله، إلى جانب أن الإسراف والبذخ قد يثيران الحسد عند بعض ضعاف النفوس ممن لا يملكون مجاراة هذا السلوك، لقصر ذات اليد، أو لبخل يعشش في طباعهم. من الحكمة التفريق بين الكرم والإسراف، وبقدر ما يحظى الكريم بمحبة الناس وتقديرهم، كذلك يحظى المسرف باستهجان الناس وعدم احترامهم، أما البخيل فهو مذموم في كل الحالات، والكرم جزء لا يتجزأ في طباع المرء وعاداته، فالكريم هو كريم في نفسه وسلوكه وبذله وتعامله مع الآخرين، أما المسرف فهو إنسان متلون يمكن أن يصرف على وليمة واحدة خمسين ألف ريال مثلا، لكنه يحجم عن مد يد العون لمن يحتاجه، ما لم تكن له فائدة من ذلك، كالإشهار أو التفاخر أو التقرب من الكبار، فلا شيء عنده لوجه الله، ويكفينا للابتعاد عن الإسراف قوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين». هدانا الله إلى سواء السبيل.