عدت ذات نهار إنجليزي شديد البرودة إلى مدينة الدراسة والذكريات، كيمبريدج، تلك البلدة الوادعة التي أثرت على العلم، والعالم، أكثر مما فعلته بلدان بأسرها، رغم صغر مساحتها، وذلك لزيارة جامعتي، وتذكر سنوات الدراسة الجميلة التي قضيتها في مدرسة لورد أشكروفت العالمية للعلوم الاقتصادية، التابعة لجامعة أنجليا ريسكن. طوفان عارم من الذكريات جعلني أكتب تغريدة أشكر فيها اللورد أشكروفت على تمويله لهذه المدرسة الدولية، التي تعلم فيها عشرات الآلاف قبلي، ولم تمض سوى ساعات حتى جاءني رده شاكرا ما اعتبره لفتة طيبة، من طالب قديم، لمؤسسة تعليمية، تبرع لها اللورد بنحو 10 ملايين جنيه إسترليني. حكاية اللورد والجامعة واحدة من مئات الحكايا التي تنتشر في الغرب عن المحسنين الذين يريدون أن تحقق أموالهم نفعا أكبر، وذلك من خلال إنفاقها في مؤسسات تعليمية، أو بحثية، أو صحية، من أجل حياة أفضل لبلادهم، ومجتمعهم. وحين تنظر إلى أهم المراكز التعليمية، والمستشفيات الضخمة، في الغرب، ستجد إن خلفها رجال أعمال آمنوا بأهمية تحالف المال مع العمل الخيري من أجل عالم آمن، وصحي، وتطوير مستوى المعيشة في بلدانهم. وحين أقلب البصر في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا السعودية، حيث تنتشر ثقافة الإحسان، والعمل الخيري بشكل كبير، وهنالك المئات من الأوقاف الضخمة، يحزنني أن هذا المال الوفير لم يؤد دوره المرتجى في مجالات التعليم، والصحة على وجه التحديد. إن ضخ هذه المبالغ الضخمة، والتي تقدر في السعودية بأكثر من عشرة مليارات ريال، في إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات في عموم أنحاء المملكة، كفيل بتغيير شكل المستقبل، وتطوير قدرات الكوادر الوطنية. لابد أن تتحول الثقافة العامة في مجال إنفاق الوقف، أو تعيينه، إلى مجالات تسهم في رفع مستوى المعيشة للمواطن، وتطوير الخدمات المقدمة له، والتي يأتي على رأسها في سلم الأولويات التعليم والصحة بالطبع. هذا سيفضي إلى نشوء ثقافة وقفية تنموية خلال سنوات قليلة ستجد المملكة، التي يوجد فيها عشرات الآلاف من المحسنين، وقد وصلت إلى مستوى مهم من التطور في مثل هذه الخدمات. وبالتأكيد ستكون رافدا مهما من روافد الحركة التنموية في البلاد. لابد أن تدار الأموال الوقفية وفق عملية اقتصادية بحتة، تركز على الاحتياجات الهامة للمواطنين في المملكة. ومن أجل ذلك فإن أفضل الطرق للتأثير المباشر هي أن تدير الهيئة العامة للأوقاف أعمالها على غرار الشركات الضخمة، ما يمكنها من إنشاء استثمارات متنوعة في مجالات حيوية، تتوافق مع رؤية المملكة للمستقبل. التركيز الوقفي على رفع مستوى الصحة والتعليم في المملكة يرفع بعضا من العبء على الميزانية العامة للمملكة، ويمكن صانع القرار من توجيه فوائض المال لإنفاقها في مجالات أخرى. إنها خطة تعاونية بين قطاعات الدولة، والرابح الوطن والمواطن بكل تأكيد. المحزن أن الهيئة العامة للأوقاف لا تملك موقعا إلكترونيا يمكن تصفحه، حتى لحظة كتابة هذا المقال!