عمي كان أذكى شخص عرفته.. ثم بدأ عقله في السقوط بالظلام. الحقيقة المؤلمة أن مرض النسيان -الزهايمر- ليس له علاج، على الأقل حتى يومنا، وفوق ذلك فهو يتقدم ويتطور للأسوأ.. البقاء مع عمي، الذي بالكاد يذكرني وأنا ابن أخيه ورافقته منذ وعيت نفسي، ورافقني وخصني صديقًا وابنا، بالكاد يتذكر أي شيء إلا تهاويم وظلال ذكريات من زمن عميق. ولكن المفاجأة أني وكل من جلس وجالس عمي يجد جوًا من السكينة والانقطاع عن صخب العالم، إلى بحر من التأمل، ووميضٍ سرّي من السعادة. عمي كان رجلًا أكبر من الواقع- ليس بعيني فقط بل حتى كل من عرفه- وكان نابهًا ولماحًا فوق التصور، وكان متعدد المواهب فوق العادة، فهو أديب ومفكر وفيلسوف ولغوي بعدة لغات وأنثروبولوجي، ورياضي، وثري العلوم، وحافظته ومعلوماته وذكاؤه فيها من الإبهار، حتى صار من صفاته أنه اينسكلوبيديا بشرية.. كما كان تاجرًا، وإداريًا غيّر شركات للأفضل. كان عمي موهوبًا فطريًا في الفكاهة ليس له مثيل من كل من عرفت، لا لم يكن ساخرًا أبدًا ولا ناقدًا. ولكنها الفكاهة المقدمة مع المعلومة العلمية أو الأدبية أو الفلسفية أو الاقتصادية. وميزته أيضا التي حاولت عمري الاقتداء بها أنه كان- وما زال- عفّ اللسان، لا يخرج من لسانه إلا وردًا، ولا يعرف سوى الثناء. علمني أن سرَّ جمال الأخلاق القدرة على أمرين: الحب والثناء. عالم عمي لا أفهمه، ومرة كان يسأل سؤالًا متكررًا ينزع آخر دمعة من عينَي، ويتساءل: قل لي، أين ذهب عقلي؟ بقيت بين عمي وبيني كلمة نتبادلها: أحبك. قضى عمره يفيد الناس ويحبهم. كل شيء في ذكريات ومخازن معرفته غرق في بحر الظلام .. إلا قلبه المحب، وعيناه الصغيرتان المتأملتان دهشة في اللاشيء. أستكين أن عمي يكافؤه ربنا بالسكينة والنسيان.