حرصت شركة أرامكو منذ بداياتها على تفعيل دورها في مجال المسؤولية الاجتماعية، فكرّست جهودها من خلال صناعة الأفلام السينمائية التي كانت فعّالة في توفير بيئة تعليمية تثقيفية ليس لموظفيها فقط، بل لكافة أفراد المجتمع، فكما أن وجود موظفين واعين هو ركيزة أساسية لنجاح الشركة وتطوّرها، كذلك وجود مجتمع متعلم واعٍ هو أمر بالغ في الأهمية فأرامكو لا تعيش بمعزل عن العالم من حولها. استراتيجية هادفة لم تقتصر جهود أرامكو في المساعدة على تعليم أبناء المملكة في فصول الدراسة، فقد أعدت الشركة أفلامًا تثقيفية لتعليم السعوديين مهارات الحياة والصحة العامة، ففي عام 1948م، كلفت أرامكو شركة جراهام أسوسيتس، وهي شركة تصميم أمريكية يديرها الأخوان روي وراي جراهام، بإنتاج فيلم اسمه «مياه - قصة المياه»، وكان هذا أول فيلم تعليمي تعلم منه المزارعون أساليب المحافظة على المياه. وجدير بالذكر أن الشركة اهتمت بإنتاج أفلام باللغة العربية تحاكي الواقع والبيئة السعودية، كي يكون له التأثير الفعّال على المشاهدين في المجتمع السعودي. سعدت أرامكو بنجاح برنامجها التثقيفي، وسرعان ما طلبت إنتاج المزيد من الأفلام، وكانت المحصلة أن شركة جراهام قد أنتجت نحو 40 فيلمًا لشركة أرامكو خلال السنوات الأربع عشرة التالية، منها أفلام الصحة العامة القصيرة، والأفلام التعليمية مثل «الذبابة – حاملة المرض» والأفلام الكاملة مثل «جزيرة العرب» الذي تناول نشأة الملك عبدالعزيز مستعينة ببعض موظفي أرامكو كممثلين، كما عرض فيلم «جزيرة العرب» على نطاق محدود في دور السينما الغربية. طريقة عرض الأفلام كان على أرامكو أن تجد طريقة لعرض الأفلام على المشاهدين، فدور السينما لم يكن لها وجود خارج المجمعات السكنية التابعة لأرامكو، أما البث التلفزيوني فلم يكن قد بدأ بعد، وعوضًا عن وسائل الإعلام تلك، قامت أرامكو بتركيب شاشات عرض متحركة ومولدات كهرباء على شاحنات تجوب الصحراء والقرى والمدن، ونصبت هذه الشاشات بشكل مؤقت في ساحات القرى أو الأسواق أو الملاعب، وهكذا عرض فيلم «مياه» على العديد من السعوديين الذين لم يكونوا قد شاهدوا أفلامًا سينمائية على الإطلاق. فيلم الذبابة في أوائل الخمسينات الميلادية بدأت أرامكو جهودًا مكثفة لمحاربة العدو الأول للصحة في المنطقة الشرقية، والذي تمثّل في الذباب، وعلى الرغم من أن البرنامج الضخم للقضاء على البعوض كان فعالًا للغاية في الحد من انتشار مرض الملاريا في المنطقة، لكن لم يكن رش المبيدات الحشرية DDT وحده كافيًا لخفض أعداد الذباب وتكاثره، لذا توجهت الشركة إلى تغيير السلوكيات العامة للسكان، فغالبية الناس في ذلك الوقت لم يكونوا يدركوا خطورة الذباب كعامل رئيسي في نقل الأمراض وانتشارها، ومن تلك الأمراض كان مرض التراخوما الذي يصيب العين. كان الطبيب ريتشارد داقي من قسم الطب الوقائي، والذي أصبح لاحقا رئيس الإدارة الطبية في أرامكو، موقنًا بأهمية الأفلام التثقيفية في توعية الناس والحد من انتشار الأمراض، لذا عمل مع شركة جراهام أسوسيتس على إنتاج فيلم «الذبابة - حاملة المرض» لتثقيف الناس عن أخطار الذباب وتوجيههم لاتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة، وكان أول فيلم لأرامكو يختص بالطب الوقائي. أرسلت الشركة وحدات عرض متنقلة لعرض الفيلم على نطاق واسع، في أسواق القطيف إلى أصغر القرى على أطراف الهفوف، وكان فيلما ناجحا أحدث تأثيرًا إيجابيًا في حياة الناس وسلوكياتهم. فيلم المياه أنتجت شركة أرامكو هذا الفيلم بهدف توعية الناس عن كيفية تجمّع المياه الجوفية التي تمد الآبار بالمياه، وكذلك توعيتهم بأهمية ترشيد استهلاك المياه، وذلك بعد أن لاحظ الجيولوجي بارقر أن هناك هدرًا كبيرًا يتمثّل في عدم إغلاق المياه المتدفقة من العيون. استغرق إنتاج الفيلم عامين وكانت مدته 35 دقيقة، وتم تصوير المشاهد في المنطقة الشرقية وبعض مناطق المملكة الأخرى التي سيعرض فيها الفيلم ومنها الخبروالدماموالرياض. عرض الفيلم على الجمهور في مساء إحدى الليالي في شهر مارس من عام 1952م تجمع أكثر من 300 مزارع في أرض رملية قريبة من المزارع في أطراف مدينة الدمام، لمشاهدة عرض فيلم «مياه». بعد عرضه على المزارعين بأسبوع، تم الإعداد لثلاثة عروض أخرى في ملعب للكرة في وسط الدمام، حيث وضعت شاشة متنقلة على أحد أسوار الملعب، وتم تشغيل مولد الكهرباء ومكبرات الصوت، وابتدأ العرض الساعة الثامنة مساء عندما تحدث موظف أرامكو الأستاذ صالح الصويغ إلى الحشود من خلال الميكروفون، وكان أحد المشاركين في الفيلم، فأخبرهم أنهم سيشاهدون شرحًا عن كيفية تجمع المياه تحت الأرض قبل قرون، وأنهم سيتعلمون كيف ولماذا يجب عليهم المحافظة على موارد المياه المخزونة تحت الرمال. وبعدها اشتغل العرض، وتفاعل الجمهور مع مشاهد الفيلم وتأثروا حينما تُليت آيات من القرآن الكريم: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، (ولا تسرفوا إنه لا يحبّ المسرفين)، وحينما انتهى العرض طالبوا بعرض آخر. استمتاع الرجال والأطفال من أهالي الدمام الذين حضروا في ليلة العرض الأولى، شجع على حضور عدد أكبر حيث قفز عدد المشاهدين من 1500 إلى 2500 في الليلتين التاليتين، ولم تمنعهم الأمطار التي تساقطت أثناء العرض من الاستمرار في مشاهدته، وفي الأيام التالية قامت أرامكو بعرض الفيلم في الخبروالأحساء. فيلم جزيرة العرب قامت شركة أرامكو بإنتاج فيلم يوثّق تاريخ نهضة المملكة منذ استرداد الرياض على يد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، وانطلاق رحلة البحث عن النفط واكتشافه بعد قدوم الجيولوجيين الأوائل. استغرقت صناعة الفيلم عامين تقريبا وتم تصوير مشاهده عامي 1952 و1953م في الجبيلوالأحساءوالرياض، وساعد على تصوير المشاهد وجود القلاع والأبراج الأثرية، وقد قام بإخراج الفيلم وإنتاجه ريتشارد لايفورد بالتعاون مع شركة أرامكو، وهو صانع أفلام أمريكي حاز فيلمه الوثائقي عن مايكل أنجلو The Titan على جائزة أكاديمية في عام 1950م. يبدأ فيلم «جزيرة العرب» بنزول أوائل الجيولوجيين في الجبيل ثم استكشافهم الصحراء، وبينما يجلس رجل كبير في العمر في خيمة، يبدأ بسرد قصة الأمير عبدالعزيز آل سعود، ذلك الشاب ذو الثلاثة والعشرين عاما، الذي قام بغارته الجريئة على الرياض في عام 1902م واسترد حكم أجداده وصعد إلى السلطة، ووفر هذا الانتقال الدراماتيكي في الأحداث نسقًا مشوقًا للفيلم. وكان الدور الرئيسي في الفيلم للإعلامي العربي المخضرم عيسى خليل صباغ، رحمه الله، الذي عمل في إذاعة لندن وصوت أمريكا لسنوات عديدة، حيث قام بدور (خالد) دليل الجيولوجيين وكان هو أيضاَ راوي القصة في النسخة العربية. موظفو أرامكو ممثّلون اعتمدت شركة أرامكو على موظفيها بشكل أساسي في تمثيل الفيلم، حيث تم اختيار جون جونز من العلاقات الحكومية لأداء دور شخصية الملك عبدالعزيز وتم اختياره لطول قامته وبنيته الجسمانية وإجادته اللغة العربية وركوب الخيل، أما جيمس ستيوارت الموظف في العلاقات الصناعية والذي كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة فقد قام بتمثيل شخصية (ماكس). كما شارك في التمثيل عدد آخر من موظفي أرامكو ومنهم سعد بن رقيّان الذي مثّل دور أمير الجبيل، وإرا كونستاد الذي مثّل دور أحد الجيولوجيين ويظهر في لقطة طريفة عندما سقط من الجمل أثناء محاولة ركوبه، أما سعيد شوّا من قسم شؤون الموظفين فقد لعب دور عجلان عامل ابن رشيد في الرياض، وقام ظافر الحسيني بدور الأمير عبد الله بن جلوي، ابن عم الملك عبد العزيز. وإن كان هناك نجم في الفيلم، فهو الموظف ناصر بن مبارك الذي مثّل دور الشاب الصغير (حمد) الذي أصبح مرافقا للجيولوجي ماكس، كما مثّلت معه فاطمة بنت علي دور الطفلة. ناصر بن مبارك المرشد يحدثنا ناصر بن مبارك المرشد الحوطي، حفظه الله، الذي قام بدور (حمد)، أنه كان موظفًا في إدارة العقود في شركة أرامكو وكان عمره 14 عامًا، ونظرًا لحبه للتعلّم وجرأته ونشاطه، لفت انتباه أحد الموظفين الأمريكيين الذين لهم علاقة بالفيلم وكان يتحدث العربية بطلاقة، فسأله عن وسم الإبل، فذهب معه إلى الجبيل في عطلة نهاية الأسبوع حيث يعيش والده وجده، فاستضافوا الموظف الأمريكي وزودوه بالمعلومات التي يحتاج إليها، وبعدها اختاره ليشارك في تمثيل الفيلم، ومن الأشياء التي لا يزال العم ناصر يتذكرها أن الأمريكي أطلعه على جهاز المذياع ومسجل الصوت الذي لم يره من قبل، وطلب منه أن يقول جملة، ثم أسمعه صوته، فكانت مفاجأة سعيدة له. ويتذكر أن الفتاة فاطمة بنت علي التي شاركت في التمثيل معه هي ابنة موظف بالإمارة كان بحريني الجنسية. دعم الأمير سعود بن جلوي قام الأمير سعود بن جلوي، رحمه الله، أمير الأحساء آنذاك، بدعم كبير لفريق عمل الفيلم، حيث خصص إحدى الحصون القديمة في مدينة الهفوف لتصوير عدد من المشاهد، وسهل تصوير مشاهد أخرى في مواقع مختلفة من الأحساء، كما أنه قام بتوفير عدد من الخدم والحراس لتمثيل الحشود المطلوبة إضافة إلى توفيره الخيول من إسطبله الشخصي. حادثة الحصان ذهب جون جونز والمخرج ريتشارد لايفورد إلى الإسطبل لتحديد الحصان الذي سيستخدمه جون من الخيول الثلاثين المتاحة، ولم يهتم لايفورد بنوع الحصان المناسب بل ركز فقط على شكله، فاختار فرسًا أنيقًا يبلغ من العمر أربع سنوات، وبعد وضع السرج عليه، ركب جون عليه لكن للأسف لم يذكر له أحد أن هذا الحصان لم يروّض، فانفلت الحصان وفقد جون السيطرة عليه وانطلق يجري في شوارع الهفوف، فسارع الناس إلى الابتعاد عن طريقه خوفا من اصطدامه بهم، ثم دخل بين أشجار النخيل ومزارع الخضراوات، وبعدها عاد إلى الشوارع، وجون يتأرجح فوقه يحاول أن يحافظ على توازنه خوفا من السقوط، وبعد نصف ساعة تعب الحصان فاستطاع جون السيطرة عليه والعودة به إلى الاسطبلات وسط هتاف كبير من الحشد المتجمع، لقد تم ترويض الفرس التي استعملت في تصوير المشاهد، وتعلق بها جون إلى درجة أنه حاول شرائها بعد انتهاء التصوير. عرض الفيلم في مصر أول عرض لفيلم جزيرة العرب كان في مهرجان القاهرة السينمائي في يونيو 1955م، حيث تضمن الوفد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله وعدد من رؤساء شركة أرامكو، وكان المهرجان تحت رعاية الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. المراجع مطبوعات أرامكو Sun & Flare و Aramco World، ومعلومات تكرّم بتوفيرها السيد ناصر بن مبارك المرشد حفظه الله.