اشتهر عن خورخي لويس بورخس «القارئ الأعظم في القرن العشرين كما يصفه البعض» تصوره للفردوس على هيئة مكتبة لانهائية. لكن بورخس الذي رحل عام 1986م لم يعش ليشهد عصر الإنترنت والكتب الإلكترونية. ترى، هل كان بورخس سيحتفظ بذات الرأي لو أن العمر امتد به ليحيا في عصرنا هذا الذي أصبح فيه كل شيء إلكترونياً، بما في ذلك الكتب التي يتوقع أن تختفي نسخها الورقية في المستقبل غير البعيد وتصبح شيئاً من الماضي كما يقال؟ هل كان بورخس ليتخيل الفردوس على هيئة مكتبة إلكترونية؟. شخصياً، لا أتوقع ولا أتمنى أن تختفي الكتب الورقية بصيغتها التقليدية، ليس لأنني لا أحب «أو لم أعتد» أن أقرأ الكتب بالصيغة الإلكترونية فحسب، بل لأمر أبعد وأعمق أثراً من ذلك. سأزعم هنا «ولمن شاء أن يتهمني بالتقليدية والسنتمنتالية» أن الكتاب الورقي كائن حي «على الأقل، إذا ما وضعته في مقارنة مع ضوء الشاشة وحبرها الإلكتروني الجامد» بوسعك كقارئ أن تتواصل معه. أن تلامسه وتمسه بحميمية لن تتحقق أبداً مع برودة الأجهزة المعدنية والبلاستيكية. لنتذكر دائماً أن الورق مصنوع من جذوع الأشجار الحية، فهل هناك دليل أكبر على أنه كائن حي فعلاً وليس اشتهاء ورغبة؟. إن الكتاب الورقي كائن حي «على الأقل،إذا ما وضعته في مقارنة مع ضوء الشاشة وحبرها الإلكتروني الجامد» بوسعك كقارئ أن تتواصل معه. أن تلامسه وتمسه بحميمية لن تتحقق أبداً مع برودة الأجهزة المعدنية والبلاستيكية تستطيع أن تحمل الكتاب معك حيثما شئت، وسيكون معك ولك، دونما أدنى خوف من أن تنقطع الكهرباء، أو تفرغ البطارية. لا يحتاج الكتاب الورقي لإعادة شحنه، ولا خوف عليه من الفيروسات التي تهدد بجعله أثراً بعد عين. سيقول قائل إن المكتبات التقليدية تشغل حيزاً كبيراً وتحتاج إلى مكان ملائم لوضعها فيه، حتى باتت تشغل لدى البعض غرفة بأكملها أو ربما أكثر من غرف المنزل. لا مراء في صحة هذا الأمر. والعديد منا يشتكون «أنا واحد من هؤلاء» من تراكم الكتب وضيق المكان بحيث تكون هناك، بين الحين والآخر، حاجة واضطرار للتنازل «لن أقول التخلص» عن بعضها. غير أن ذلك كله لا يعني بأن أقبل في يوم ما بتحويل مكتبتي «الحية» التي أسمع صوت تنفسها الهادئ كلما أغلقت بابها علي إلى محض حروف ميتة تلوح لي من وراء شاشة باردة لا تحفل بما تحمله أناملي من الدفء.