قبل بدء الحديث لا بد لي من التأكيد على أنني لست إطلاقاً ضد سعودة عقلانية ومتوازنة وواقعية تراعي ظروف وإمكانيات سوق العمل ومخرجات المجتمع قبل مخرجات التعليم، ولست أيضا ضد زيادة كلفة العامل الأجنبي لإحلال سعودي مكانه، لكن فقط في بعض المهن التي بالإمكان عملياً سعودتها بل أنا معها وأؤيدها بالمطلق. لكن إذا أردت أن تعرف مقدار خطأ برامج السعودة عن الهدف السامي المقصود من وضعها في الأساس يكفي أن تنظر حولك لترى أن الكثير من منجزات الوطن خلال ال 4 عقود الماضية مثل الطرق والسدود والمباني السكنية والتجارية والحكومية ومحطات التحلية ومصافي البترول والمطارات والكثير غيرها.. من بناها؟ ومن قام بصيانتها وما زال؟ أليست هي هذه الأيدي العاملة الماهرة التي نريد التخلص منها الآن؟ وبدون أن يكون لدينا البديل الوطني الجاهز والمؤهل والراغب في العمل بهذه المهن تحديداً؟ (وهذا ليس تقليلاً من إنجازات أبناء الوطن إطلاقاً منذ عقود لكنه محاولة لملامسة الواقع الغائب عن خطط السعودة الحالية) انظر على سبيل المثال وليس الحصر إلى الأسواق كيف تم إغلاق بعض محلات الخدمات مثل بيع وصيانة الهواتف، ولا يكفي للرد على هذا الكلام أن نسوق 100 أو 1000 مثال لشباب سعودي جاد وناجح (وأنا أفخر بهم) لإثبات أن قرارات السعودة ناجحة، حيث إنه مقابل الألف مثال ناجح يوجد مائة ألف مثال غير ناجح وغير ملتزم، أو على الأقل لا يوجد العدد الكافي من المواطنين المؤهلين للقيام بما كان يقوم به الأجنبي، ولن يوجد إلا بعد عمل خطة متزنة وواقعية، على أن تتضمن هذه الخطة الكثير من الحوافز والقليل من العقوبات، بعكس حال خطة وزارة العمل الحالية التي تكاد تخلو من حوافز حقيقية، وتتكئ فقط على العقوبات ورفع تكلفة العامل الأجنبي، باعتبار أن البديل السعودي المؤهل جاهز (وهذا قد يكون صائباً إلى حد ما في بعض المهن مثل أعمال المحاسبة في البقالات والسوبر ماركت الكبيرة وما شابهها) ولم يمنعه من العمل إلا وجود الأجنبي رخيص الكلفة، ولا يخفى على كل مطلع أن هذا الافتراض خاطئ من أساسه، حيث إن هذا الأجنبي تم استقدامه لانعدام (وليس نقص) البديل السعودي المؤهل في الكثير من المهن الحرفية والعمالة غير الماهرة مثل أعمال البناء باختلاف مهنها والنظافة وصيانة المباني والمجمعات التجارية والمباني السكنية، وهؤلاء جميعاً يعدون بالملايين، وإذا كان الحال كذلك وكان رفع الكلفة بغرض إحلال سعوديين غير موجودين أصلاً لهذه المهن مكان الأجنبي فإن رفع الكلفة المادية وقبله برامج السعودة في هذه المهن هو عمل لن ينتج عنه غير زيادة الكلفة على المستفيد النهائي من هذه الخدمات وهو المواطن. وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض المهن التي لا يمكن سعودتها إطلاقاً ولا سعودة حتى 5% منها على سبيل المثال المهن الحرفية اليدوية التي ذكرناها في معظم (وليس كل) مجالات الاقتصاد حتى بعد 20 عاماً من برامج وزارة العمل ذات الألوان الكثيرة الذي يراعي مخرجات المجتمع وليس مخرجات التعليم فقط، إلا إذا اعتبرنا السعودة الإجبارية وغير المنتجة إنجازاً يحسب لوزارة العمل، وحتى هذا الاعتبار الافتراضي لن يحدث عن قناعة بل تحت الخوف من العقوبات. إن الاعتماد على إنجازات أرقام السعودة الصادرة من وزارة العمل بدون التمحيص والتدقيق في تفاصيلها بمعرفة مقدار السعودة الحقيقية من تلك الوهمية المعتمدة فقط على الخوف من عقوبات وزارة العمل هو ما أصاب برامج السعودة بمقتل، وأكرر هنا أنني مع الهدف السامي للسعودة، لكن على أن تكون عقلانية وتستهدف ما يمكن سعودته فعلياً من مهن وأن تكون طويلة المدى 10 إلى 20 عاما، وأن تعتمد على الحوافز أكثر من اعتمادها على العقوبات، ولابد أن تتضمن هذه الخطة العقاب الصارم لمن يتهاون في أداء عمله، مثل أن يكون لدى الوزارة نظام مشابه لنظام (سمة) يمنع كل متهاون من العمل لدى القطاع الخاص لمدة معينة حتى يعرف راغب العمل أن عليه واجبات وتبعات في حال عدم الجدية وعدم الالتزام الصارم بمتطلبات العمل. لا شك في أن لدينا أرقاما للبطالة، ومن أوجب الواجبات التصدي لها حيث إن نتائج هذه البطالة قد تؤثر على الوطن وعلى أبنائه إلا أنني أعتقد جازماً أن الاستمرار في خطط وزارة العمل الحالية للتصدي لهذه الأرقام لا تقل عن تركها بدون حل، فها نحن الآن نحصد بعض نتائج خطط وزارة العمل حيث نرى الكثير من الشباب السعودي الجاد والراغب في العمل والذي بدأ فعلا عمله الخاص ينضمون إلى قوافل العاطلين عن العمل بسبب خطط الوزارة الافتراضية والخالية من الحوافز الحقيقية لهؤلاء الشباب والشابات. إن الحديث العاطفي عن مشكلة البطالة لن يحل مشكلة البطالة، وهذا ما بدأنا نحصد نتائجه على اقتصادنا الوطني وعلى المواطنين بكافة فئاتهم، كما أن الحديث بالتفصيل عن البدائل والحلول العاجلة قبل فوات الأوان يتطلب الكثير من الخطوات، أولها تعديل العديد من برامج وزارة العمل واستبدالها ببرامج واقعية طويلة المدى يشترك العقلاء والمخلصون من رجال الأعمال والمختصين من خارج وزارة العمل في وضعها مع الوزارة بشكل أساسي وليس كما هو واقع الحال الآن.