الكتب هي الإرث الذي يتركه العبقري العظيم للإنسانية، إرث ينتقل من جيل إلى جيل، هدية إلى أولئك الذين لم يولدوا بعد (جوزيف أديسون). لقد تتلمذتُ على أيدي أولئك العباقرة خمسين عاما كافية أن أنتقل إلى مرحلة الكتابة التي بدونها تصبح مجرد القراءة كوبَ قهوة مع صديق، أو شرفةً على نهر لا غير. نعم، للكتابة في حياتي شأن آخر، فقد صحبت القلم الرصاص ثلاثين عاما، واختطَفَتْ لوحةُ المفاتيح أناملي لتكون مصب شلالي كل يوم.. نعم كل يوم؛ مقالة، أو خطبة، أو برنامجا تدريبيا أو إذاعيا أو فضائيا، أو ورقة عمل لمؤتمر، أو حتى حضور ندوة أو ورشة أو جلسة علمية تحتم علي طبيعتي ألا أذهب خالي الوفاض، بل لا بد من التحضير الوافر للقضية المطروحة. كل ذلك يجعل القراءة والكتابة في حياتي توأما، لا يمكن أن يفصل بينهما حتى الدكتور عبد الله الربيعة جراح التوائم السيامية السعودي المبدع. إن الإلزام بالكتابة هو الذي أخرج لنا مئات الكتب الرصينة في مختلف التخصصات الإنسانية خصوصا، والعلمية عموما.. فأكثرُ كتبِ الصف الأول من كتاب العالم اليوم من أكثر من قرن مجموعةٌ من المقالات الصحفية، الأجنبيةُ والعربيةُ سواء، وسل الرسالةَ والمقطم والمقتطف والمنهل والمجتمع والدعوة وعالم الكتب والعربية والفيصل والعربي والمعرفة والمجلات العلمية والصحف اليومية في مشارق الأرض ومغاربها، عن مئات الكتب التي ولدت من رحمها المنجب، فكيف ببحوث الماجستير والدكتوراه التي أعدَّها أجمل إجبار على التأليف عرفته الإنسانية؛ حيث التجويدُ والإتقان بأعلى درجات التحفيز تحت إشراف علمي. ومن ذلك كله أصدرتُ نحو عشرين مؤلفا، وفي أدراج حاسوبي ضعفها ينتظر قدر الله وتوفيقه. من أجل بحثي في (الشعر في الأحساء في القرن الرابع عشر الهجري) جُستُ مكتبات وزارة التعليم ودارة الملك عبدالعزيز ومكتبات أرامكو ومكتبات البحرين والمكتبات الأثرية والمكتبات الخاصة في البيوتات العلمية، وقلبت أقدم الدوريات في العصر الحديث والمخطوطات التي يتحفظ عليها أهلها، أكثر من الكتب والمؤلفات، وغصت في صدور الذين أوتوا العلم فاستنبطت من أراضيها الخصبة نوادر الأحجار الكريمة. ومن أجل بحث الدكتوراه استشرتُ أكثر من سبعمائة مؤلف ومرجع من بلادي السعودية وسوريا وتركيا ومصر والمغرب والكويت وغيرها، بل والذي نفسي بيده لكنت أذاكر بعضها كأنما سأؤدي فيه اختبارا دراسيا، ولذلك أصبحت تلك المعلومات جزءا من شخصيتي. بصراحة.. لا يعذبني مثل أرتال الكتب التي أمر بها ولا أستطيع أن أقرأها.. ليس في حياتي شيء غير مرضٍ لي مثل مكتبتي الحبيبة، كم أودُّ أن تكون أكثر تنظيما مما هي عليه الآن!! اعتدتُ أن أختار لكتابتي أكثر الساعات تجليًا، إنها ساعات البكور الموحية الملهمة، حيث تتنزل البركة في ثوانيها فتغدو حقولا من النور.. وسنابل من التألق.. حتى لأسأل أحيانا بعد أن أكتب: من كتب هذا؟! أما إذا مر بها زمن، فقد أشك بأنني الذي كتبته بالفعل، وقد أبحث عنه في محرك البحث الإلكتروني!! يقول بشر بن المعتمر: «خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الاستماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع». وقد قلت يوما: يسري بي الليل والساعات تَعجبُ من / صليلِ مِرودِ أقلامي إذا انتحبا / حتى إذا ما أتم الهمُّ جولتَه / تبرعمَ النُّورُ في أفنانِ ما كتبا..