في البدء كان الشعر.. ولما فاض اتخذ مسارب عديدة تلونت بقيمه وتمظهرت على شكل اجناس إبداعية مختلفة. فعلي الدميني الشاعر هو جميع ما مارسه من أعمال ومشاغل طوال حياته وإن تباعدت اتجاهاته بين هندسة الميكانيكا والصحافة والرواية.. فهي جميعاً تتقاطع في نقطة الشعر كبؤرة مركزية مشعة، حيث اتحاد المادي والروحي في خبرة الجميل والتماهي بين الفكرة والمحسوس. فعندما رتب هيجل الفنون هرمياً بحسب قدرة المادة الحسية في التعبير بوضوح عن الروح، نجد أن هندسة المعمار مثلاً قد احتلت القاع ووقع الشعر والموسيقى في أعلى التصنيف كتعبير عن تجلي الروح في المحسوس. نظر الدميني إلى الوجود بمنظور الشعر باكراً، وبتلك الحساسية الشديدة في مقاربة الأشياء بمفهوم الجميل والمثالي، وطن نفسه ووضعها في هذا المسار: (أتمرن على ما يدل الفتى في المساء إلى نفسه/ أو يؤجج ثلج الجنوب ببادية الشام أو يتخلق في المبتدأ/ خبراً للقصيد). هذه المعالجة الشعرية لقضايا الحياة استمرت كهاجس مؤرق طوال مسيرته، وهي أيضاً من أملت عليه انعطافاته وخياراته عند اشتغالاته الحياتية والأدبية وحددت مواقفه وجميعها اصطفاف بجانب الشعر. وعندما شعر بثقل الواقع وسعة التباين بين المأمول والمآل، فتش عن قلب آخر يشاركه ثقل المسؤولية التي احسها الشاعر وألزم بها نفسه بشرط أن يشاطره الرؤية الشعرية: (من لي بقلبٍ غارق في النص/ أطلعه على شغفي/ وأرفعه إلى سعفي/ وأوقد فيه جاريةً من الأسفار). لكن كل ذلك الإصرار على شعرنة الحياة وقبولها في صورتها المثالية فقط، نلمح مسحة ألم لدى شاعرنا في أن حياته قد عاشها بوجهين، ما يتمناه: (الزمان الذي كان لي خاشعاً/ كان يضحك مثلي/ ويمشي ورائي). وما وجده في واقعه: (والزمان الذي صرته راكعاً/ يتقدمني في الزيارات/ يلبس ثوبي/ ويشرب كوبي...). هنا يجب علينا الحذر والاحتراس، فحقيقة روح الشاعر القلقة هي ما تدفعه لاستصغار النتائج لأنه يقيسها بمعيار الشعر الضخم، أما نحن فنراه قد حقق الكثير ليصبح رمزاً وقامة كبيرة تسمى علي الدميني.