من أغرب ما يحدث في بلادنا أن يلجأ خريجو الجامعات العالمية من أوروبا وأمريكا واستراليا إلى العمل في وظائف متدنية بالنسبة لتحصليهم العلمي، والسبب هو تعنت الشركات والمؤسسات الأهلية في التعامل مع هؤلاء الخريجين عندما يطالبونهم بسنوات معينة من الخبرة، في الوقت الذي تعج فيه البلاد بالوافدين، ومنهم من شهاداته مزورة، وخبراته مزورة وقدراته مزورة، ومع ذلك يجد الفرص الوظيفية متاحة أمامه، بينما ابن البلد الذي صرفت عليه الدولة الملايين ليتلقى العلم في أرقى الجامعات العالمية، يجد نفسه محروما من الفرص الوظيفية المتاحة لغيره، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من مكاتب وزارة العمل المنتشرة في أرجاء الوطن، والتي أصبحت عونا للعمالة الوافدة على حساب أبناء الوطن، وما إقدام الشركات والمؤسسات الأهلية على مطالبة الخريجين الجدد بسنوات الخبرة سوى خلل في أنظمة الوزارة، وهي مطالبة تشكل عقبة تمنع الخريجين من الحصول على فرص وظائف تناسب تخصصاتهم، مما يضطرهم للعمل في أماكن بعيدة كل البعد عن مجال دراساتهم وبأجور متدنية لا تفي باحتاجاتهم ومتطلباتهم الحياتية، ولا تغطي مصاريفهم اليومية. وكثرا ما نسمع ونقرأ عن المهندسين الجدد الذين حفيت أقدامهم في البحث عن وظائف دون جدوى، فاضطروا للعمل في أماكن لا تناسب تحصيلهم العلمي، رغم حاجة البلاد إلى المهندسين في مجالات كثيرة، ولا أعرف كيف يمكن أن نبني نهضة صناعية بالاستغناء عن هؤلاء المهندسين، في الوقت الذي تمتلئ فيه مصانعنا بالمهندسين الوافدين، ومنهم من اكتسبوا خبراتهم في بلادنا، ووصلوا إلى مناصب متقدمة في مصانعنا، في الوقت الذي يضطر فيه المهندس السعودي للعمل نادلا في مطعم، أو محاسبا في متجر، أو عاملا في محل تجاري. وكيف يحصلون على الخبرة في مجال تخصصاتهم، دون أن يلتحقوا بالعمل في تلك التخصصات، أم أن المسألة برمتها حيلة مدبرة للتخلص من توظيف الشباب؟ بعض الخريجين الذين تلقوا تعليمهم الجامعي في الخارج وعلى حساب الدولة، يجدون فرص العمل متاحة لهم في بعض دول الخليج العربية، فلا يترددون في العمل هناك، وفي هذه الظاهرة ما فيها من إساءة للوطن الذي احتضن ملايين الوافدين وعجز عن احتضان أبنائه، وهذه حالة غريبة، في ظروف تقتضي تضافر كل الجهود لمواجهة تحديات التحديث الذي امتد إلى كل مفاصل الدولة، وليس من المعقول أن تصرف الدولة على تعليم أبنائها ملايين الدولارات وتترك لغيرها فرصة الاستفادة منهم. وإذا كانت الأنظمة الجديدة تحرص على تجاوز كل العقبات للوصول إلى التحديث المطلوب، فإن هذه الأنظمة لابد أن تشتمل على آلية تؤكد الاستفادة من الخريجين الجدد، من أجل أن تتحمل الشركات والقطاع الأهلي دورهما في توظيف هؤلاء الخريجين، وليس وضع العقبات في طريقهم، ومطالبتهم بشروط تعجيزية ومنها مطالبتهم بسنوات خبرة لايمكنهم اكتسابها بغير الممارسة الفعلية للعمل في مجال تخصصاتهم العلمية.