لا تكاد تتجول في حي من أحياء الدمام أو شارع من شوارعها إلا وتجد حاويات جمع الملابس المستعملة منتشرةً في أرجاء تلك الأحياء تحمل عبارات التحفيز لدعم الأسر المتعففة والفقيرة، وفي أكثر الأحيان تدعوك لدعم الأسر المنتجة، حاملةً عبارة «لا ترميها غيرك يبيها»، ولربما تزينت بصورة لفقير ينشد «أعطوني معطفا يقيني برد الشتاء، جودوا علي بلباس يحميني حر الصيف». مع دخول موسم الشتاء، وفي ظل انتشار تلك الحاويات تتهافت الأسر السعودية على التبرع بالملابس الشتوية التي احتلت جزءا كبيرا من المنزل، وربما ضاقت على الأبناء والبنات بعد أن كبروا في العمر، وربما أصاب التلف أو التمزق تلك الملابس، فلم تعد صالحة للبس، مما يدفع الأسرة لوضعها في تلك الحاويات ظنا منها أن تصل إلى المحتاجين، يطلبون بذلك الأجر من الله، إلا أن الحقيقة الصادمة أبعد من ذلك. «اليوم» استقصت مسيرة تلك الحاويات، محاولة استكشاف جزء من القصة تحت سؤال كبير «أين تذهب تبرعات الملابس المستعملة»؟ ربما الواقع يكشف أن هذه الملابس يتم فرزها ليلا ثم تتجه إلى جهات غير معلومة مستودع الفرز «اليوم» في رحلة إعداد هذا التقرير، تتبعت إحدى الشاحنات التي تحمل شعار إحدى الجمعيات الخيرية، وتعمل على تفريغ هذه الحاويات وصولا إلى مستودع الفرز، فمتعهد الجمع يختار أوقات الليل المتأخرة لعملية تفريغ الحاويات؛ تجنبا للفت نظر الناس، فيقوم بنقل ما يتم جمعه إلى أحد المستودعات (تبلغ مساحته التقريبية 700 متر مربع)، لتبدأ هناك عملية الفرز، حيث يتم الفرز إلى مجموعات حسب الملبوس، فملابس الأطفال توضع في جهة، فيما ملابس الكبار توضع في جهة، ويجري جمع الملابس التالفة في جهة أخرى، بعد ذلك، تبدأ عملية الترتيب والضغط في طرود لتتوجه إلى جهات «غيرمعلومة». ويصل معدل التفريغ اليومي لهذه المستودعات في أوقات الركود إلى 5 شاحنات وإذا كانت حمولة الشاحنة القصوى 15 طنا فيصل إجمالي التفريغ اليومي إلى 75 طنا، والرقم مرشح للزيادة في مواسم الأعياد وشهر رمضان؛ نظرا لزيادة الكميات، وارتفاع الطلب في الأسواق التي تصدر لها هذه المتحصلات. تضارب وخوف وبالتدقيق في المستودع، لم تجد «اليوم» أي لوحة تبين تبعيته للجمعية الخيرية، ولا يحمل لوحة تبين ملكية المستودع، ولا وجود لأي مندوب أو ممثل للجمعية من المواطنين، بل تقوم عليه عمالة وافدة من لحظة الجمع وصولاً إلى جهة «غير معلومة»، كما أن المستودع يفتح في وقت دخول الشاحنة ويتم إغلاقه لحين خروجها، ويرفض العاملون فيه الحديث لأي شخص، ويمنع بعضهم من تجاوز بوابة المستودع تحت أي طائل، مما يوحي بأن المستودع يضم عددا من العمالة المخالفة، كما أنهم لا يسمحون بالتقاط الصور حتى لشاحنات الجمعية. شعار الجمعية وفي رصدنا المستمر لهذا المستودع التقت «اليوم» بأحد المواطنين ادعى أنه مسؤول بالجمعية، رافضا الكشف عن اسمه، أو إبراز أي تصاريح تخص الجمعية، كما ادعى أن لديه عقدا مع جمعية البر -رغم أن اللوحات والشاحنات لا تحمل شعار جمعية البر-، طالبا منا التوجه للجمعية وسؤالها، فيما خالف الوافد الذي كان برفقته دعواه، مؤكدا أن مؤسستهم لديها عقد مع أمانة المنطقة الشرقية وأنهم يملكون كافة التصاريح وهذا المستودع عائد للأمانة -رغم عدم وجود ما يثبت ذلك-، الأمر الذي تسبب بنشوب خلاف بين الاثنين، انتهى بطلبهما منا مغادرة الموقع فورا، مهددين بتقديم شكوى لشرطة الدمام، و«اليوم» تحتفظ بالتسجيل الصوتي لهذا النقاش. تجربة البلاغ كما حصلت «اليوم» على صور من أحد العاملين في مؤسسة تعمل في هذا النشاط في المنطقة الغربية -رافضا الكشف عن اسمه-، مؤكدا ل «اليوم» أن هذه الملابس لا تصل إلى المحتاجين، كما قال العامل ل «اليوم»: ان المؤسسة التي يعمل بها، رغم إزالة الأمانة لبعض حاوياتها، إلا أنه لاحظ أن إدارة المؤسسة تقوم بإخراجها بعد مدة وجيزة، وتعيد وضعها في مكانها، طالبا منا تجربة رفع بلاغ على احدى الحاويات، ومتابعة تجاوب الأمانة مع ذلك، كما أكد لنا وجود عمالة مخالفة تعمل مع هذه المؤسسات، وفي ظروف عمل لا تطابق الأنظمة السارية، من زيادة ساعات العمل، وعدم توفر وسائل السلامة في الموقع - كما قال المصدر-. لا تجاوب مع البلاغات «اليوم» رفعت بلاغات على بعض الحاويات عن طريق تطبيق بلاغات الأمانة، ومركز الاتصال، ولم يتم التجاوب مع هذه البلاغات، رغم مضي أكثر من 6 أيام عمل، وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، كما حاولت الوصول إلى مسؤول رسمي في إحدى هذه الجمعيات، إلا أن الرقم الموحد لا يجيب عليه أحد، كما أن حسابات تلك الجمعيات في مواقع التواصل متوقف عن التغريد منذ ما يزيد على عام، إضافة إلى اختفاء مواقعها الإلكترونية من على الشبكة. غياب المسؤولية في ظل غياب التحرك الجاد من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وتغاضي الأمانة والبلديات عن هذه المشكلة، رغم التعاميم، والتعاميم الالحاقية والتأكيدية.. يبقى السؤال لمصلحة من يحرم الفقير من هذه الملابس؟ ولماذا تتغاضى الأمانات والبلديات عن هذا التشويه المتعمد لجمال المدن؟ وهل سيكون صدور نظام جمع التبرعات «المنتظر» هو بداية الأمل لوضع حل لهذه المعضلة؟ حاوية أخرى غير مرخصة أمام أحد الأسواق حاوية غير مرخصة وبلا متابعة قانوني: قصر جمع التبرعات على جهات معينة يقول المحامي إبراهيم الحسين: إن الأنظمة والتعاميم قصرت جمع تبرعات الملابس على جمعيات معينة، فقد نصت اللائحة التنفيذية من نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية في المادة الرابعة «مع مراعاة ما نص عليه النظام من أهداف ومع مراعاة تخصص الجمعية تحدد اللائحة الأساسية الأهداف التي تقوم عليها الجمعية وتكون المحدد لنشاطها ولا يجوز لها تجاوز تلك الأهداف إلا بموافقة الوزير أو مَنْ يفوضه»، مضيفاً: «شُكلت لجنة مختصة بناء على الأمر السامي رقم 29245، لدراسة هذه المشكلة بعد قيام العديد من الجهات الخيرية بجمع تبرعات الملابس، حيث خرجت اللجنة بحصر هذه المهمة لجمعيات البر الخيرية والخدمات الاجتماعية، وذلك لاستقبال الملابس المستعملة الصالحة للاستخدام والتأكد من إعادة تهيئتها قبل توزيعها على المحتاجين حفاظاً على الصحة العامة». وبيَّن المحامي الحسين أن عقوبات الجمعيات المخالفة يكون مجلس الإدارة مسؤولا عنها لأنه المشرف على أموال الجمعية وممتلكاتها وإيراداتها وعليه ان يؤدي مهماته بمسؤولية وحسن نية، ولا يجوز له التصرف إلا فيما تنص عليه اللائحة الأساسية والتأكد من تقيد الجمعية بالأنظمة واللوائح السارية في المملكة بما يضمن تلافي وقوع الجمعية في مخالفة نظامية. وأضاف: إن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية هي المختصة بتطبيق العقوبات على الجمعيات الخيرية. حاوية لإحدى الجمعيات لا تلتزم بالمتطلبات النظامية جمعية البر: نستلم طلبات التبرع من الموقع الإلكتروني فقط قال مدير إدارة العلاقات العامة والإعلام بجمعية البر فيصل المسند: إن جمعية البر تعمل في مجال جمع الملابس والأثاث المستعمل في مشروع «نميها»، الذي يقام في ثلاثة فروع هي الدمام (دار الخير)، الخبر (مبرة الإحسان) وفرع الجمعية بعنك، موضحاً أن الجمعية تستلم طلبات التبرع من خلال الموقع الإلكتروني فقط، ولا يوجد لديها أي حاويات منتشرة بالأحياء، التزاماً منها بما أصدرته الجهات المختصة من تنظيمات في هذا الشأن، وأن الجمعية تجمع الأثاث والملابس والأجهزة المستعملة، ليتم توزيعها على المحتاجين بعد صيانتها وتحسينها، وكذلك فوائض الطعام من الولائم بعد التنسيق المسبق. كما بيَّن المسند أنه عند استلام الطلب، فإن الجمعية توجه الفريق المختص من منسوبي الجمعية للمتبرع، لاستلام التبرعات، وتسليم سند الاستلام للمتبرع متضمناً ما تبرع به، ويعود الفريق بعد ذلك لمستودعات الجمعية لتبدأ عملية الفرز بموجب سند التبرع، وفي حال كانت المواد صالحةً للاستخدام، فيتم تعقيمها وتحسينها، ليتم توزيعها على مستفيدي الجمعية، سواءً كان من الملابس أو الأثاث، موضحاً أن هذه التبرعات العينية توزع على مستفيدي الجمعية من الأسر الفقيرة، وأسر المتزوجين حديثاً، ولدى سؤال «اليوم» له عن التبرعات غير الصالحة، أفاد المسند بأن الجمعية تقيم مزاداً علنياً تدعى له المؤسسات المهتمة، ويكون البيع لأعلى عرض مقدم، مؤكداً أن ريع المزاد يعود مباشرةً للمستفيدين من خلال حساب الصدقات، ولا يستخدم في المصروفات التشغيلية أو الإدارية للجمعية، مشدداً على أن الجمعية لم توقّع أي عقد مع أي جهةٍ كانت لجمع الملابس أو الأثاث المستعمل من خلال الحاويات، وأن الجمعية تعمل على ذلك من خلال كوادرها السعوديين، كما تواصلت الجمعية مع مختلف الجمعيات لإزالة حاوياتها الموجودة في مختلف المواقع، داعياً المتبرعين إلى إبلاغ الجمعية في حال لاحظوا وجود حاويات أو أشخاص يجمعون الملابس والأثاث والأجهزة المستعملة، مدعين ارتباطهم بالجمعية، دون أن يقدموا ما يثبت ذلك.