الذكريات الجميلة التي ترتبط بالأحبة والأصحاب لا يمكن أن تنسى، فهي تنبض في القلوب وتمتزج مع الأفكار، لذا يظل تليفزيون أرامكو جميلًا في ذاكرة الكثيرين من أهالي المنطقة الشرقية الذين عاصروا بثه في الخمسينيات والستينيات الميلادية، واستمتعوا ببرامجه وأفلامه ومسلسلاته مع أهاليهم وأصحابهم في أجواء تعبق بالطيبة والبساطة. ريادة وتحقق محطة تليفزيون أرامكو الناطقة باللغة العربية هي الثانية في منطقة الشرق الأوسط، والأولى في منطقة الخليج العربي، جمعت بين التعليم والترفيه من أجل تقديم برامج رائدة وجذابة لمشاهديها، الذين تجاوز عددهم مئات الآلاف في المنطقة الشرقية ودول الخليج المجاورة. استمر بث تليفزيون الموجة رقم 2 (القناة الثانية) حوالي 13 عامًا من التميّز والنجاح حتى تقرر إغلاقها عام 1970م بعد تشغيل محطة تليفزيون الدمام، وحوّلت المحطة بثها باللغة الإنجليزية فقط على ما سمي (القناة الثالثة)، الذي توقف عام 1989م بعد انتشار المحطات الفضائية. تأثير إيجابي بهدف توعية وتسلية موظفيها السعوديين البالغ عددهم 9000 موظف وعائلاتهم، أنشأت شركة أرامكو محطتها التليفزيونية لتقديم برامج مفيدة وممتعة على درجة عالية من الاحترافية والتميز، ونظرًا لجودة برامجها وقوة بثها، التي كانت تغطي المنطقة الشرقية وأجزاء من دول الخليج المجاورة، استقطبت المحطة جمهوراً واسعاً تجاوز مئات الآلاف من المشاهدين، فكانت بحق من المحطات القليلة في العالم العربي، التي كان لها تأثير إيجابي على جميع شرائح المجتمع، حيث قامت بأدوارها التوعوية والترفيهية بصورة راقية أحدثت نقلة نوعية وثقافية لأبناء المنطقة، وساهمت في تشكيل وعي جيل خليجي في حقبة كانت نسبة الأمية فيها مرتفعة ومصادر المعلومات قليلة ووسائل الترفيه متواضعة ومحدودة. جدير بالإشادة ما بذلته شركة نفطية (أرامكو) من جهود غير معتادة وفريدة في تشغيل محطة تليفزيونية تعليمية وترفيهية شهد لها الجميع بالنجاح. بداية البث عبر الموجة رقم 2 (القناة الثانية Channel 2)، التي عينت لها الحكومة السعودية الرمز HZ 22 TV، انطلق بث تليفزيون أرامكو للمرة الأولى في 16 سبتمبر 1957م، حيث تسمّر حوالي 1000 مشاهد في المنطقة الشرقية أمام شاشات 200 جهاز من أجهزة التليفزيون متلهفين لبدء بث المحطة التليفزيونية الجديدة لأرامكو. اُفتتح البث بتلاوة آيات من الذكر الحكيم ابتدأت بآية: «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا» كما جرت عليه العادة في افتتاح المشاريع الجديدة، وبعدها ألقى فهمي البصراوي، الموظف في العلاقات العامة لأرامكو، كلمة أوضح فيها الغرض من إنشاء تليفزيون أرامكو، وفي المساء تم عرض فيلم «جزيرة العرب» وهو فيلم تاريخي من إنتاج أرامكو يروي حياة ودور الملك الراحل عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في نشأة المملكة العربية السعودية. في اليوم الثاني تضمن جدول البرامج اثنين من المقاطع التليفزيونية القصيرة أحدهما بعنوان «الطيور الدوّامة» والآخر بعنوان «أنا ابحث عن المغامرة»، وفي مساء ذلك اليوم تم عرض برنامج «صحتك» حيث دار حوار عن مكافحة الملاريا، وهكذا رسمت المحطة في الأذهان منذ الأسبوع الأول هدفها الأساسي في التثقيف والترفيه. كانت شركة أرامكو قد أطلعت موظفيها على موعد انطلاق البث المرئي من محطتها التليفزيونية بالظهران، كما أنها وضعت تليفزيونات كبيرة في صالات الترفيه في مناطق الشركة الثلاث كي يتسنى للموظفين متابعة بدء البث ومشاهدة البرامج لاحقًا، حيث إن أجهزة التلفزة لم تكن موجودة عند معظم الموظفين. ساعات البث ابتدأت المحطة في بث برامجها خمسة أيام في الأسبوع، من السبت إلى الأربعاء، بمعدل ساعة واحدة في اليوم أو أكثر بقليل، وبعد شهر أصبحت تبث برامجها في كل يوم، وزادت ساعات البث حتى وصلت ساعتين ونصف الساعة في أبريل عام 1958م، وفي يناير عام 1959م وصلت إلى ثلاث ساعات في اليوم، ثم إلى ما يقارب الأربع ساعات في عام 1960م، وفي عام 1965م بلغت ساعات البث خمس ساعات. محطة المطار محطة تليفزيون أرامكو كانت أولى القنوات الناطقة باللغة العربية في السعودية ودول الخليج العربي، لكنها لم تكن محطة البث المرئي الأولى، فقد سبقها بعام واحد تشغيل محطة صغيرة تبث باللغة الإنجليزية من مطار الظهران وعلى نطاق محدود للأفراد الأمريكيين الملتحقين ببعثة التدريب العسكري، وأغلقت عام 1961م. يخبرنا أحد كبار السن من موظفي أرامكو أنه عندما دخل بيت أحد الموظفين الأمريكيين في الظهران عام 1956م لإجراء صيانة، لاحظ وجود جهاز لم يعهده من قبل تظهر فيه مشاهد بالصوت والصورة، فاستغرب هذا الجهاز الذي لا يشبه الراديو، فدفعه الفضول إلى سؤال زوجة صاحب البيت: ما هذا؟ فردت عليه إنه جهاز تليفزيون وما تراه هو بث برامج من مطار الظهران. الأفلام الأجنبية حرصت المحطة على بث جميع برامجها وعرض أفلامها باللغة العربية تأكيدا على هدفها الرئيس، الذي يتمثل في توعية وتسلية موظفي أرامكو السعوديين وعائلاتهم، لذلك كانت تقوم بدبلجة الأفلام الأجنبية حيث تمر عملية الدبلجة بمراحل عديدة تشمل: المراجعة وقطع المشاهد غير المقبولة وكتابة الترجمة ثم تسجيل النص بلغة عربية مبسطة، وعند عرض الفيلم يتزامن الصوت العربي المسجّل مع الصور المتحركة، أما الموظفون غير الناطقين بالعربية فكانت الأصوات الأصلية للمسلسلات والأفلام والبرامج الأجنبية تذاع لهم من خلال محطة FM خاصة بالشركة. الكوادر السعودية في محطة تليفزيون أرامكو، بلغ عدد العاملين 65 شخصًا في عام 1963م، كلهم سعوديون ما عدا المنتج ورئيس المهندسين، ورئيس التشغيل، واثنين فنيين وسكرتير، وخمسة موظفين من بلاد الشام، أما وظائف السعوديين فكانت تتمثل في مساعد المنتج ومعدي البرامج والمصورين وبقية الفنيين. في خلال السنوات العشر الأولى للمحطة، أثمر التدريب -أثناء العمل- المدعوم في حالات عديدة بالدراسة التخصصية والابتعاث للتدرّب في محطات التليفزيون الأمريكية، في إتقان السعوديين العمل التليفزيوني مما أدى إلى شغلهم 39 من أصل 45 منصبًا في المحطة عام 1967م، في تلك السنة كان مدير المحطة صالح المزيني، وهو سعودي من بريدة، يشرف على زملائه الذين تعلموا إدارة الإنتاج، وكتابة النصوص، وتحرير الأفلام، وإنتاج المؤثرات الصوتية والبصرية الخاصة، وتشغيل كاميرات التليفزيون في الاستوديو ومعدات التصوير السينمائي في الموقع. برامج التليفزيون كانت المحطة حريصة على التوازن بين المحتويين الترفيهي والتعليمي والتنويع وتغيير البرامج من وقت لآخر مراعية في ذلك مصلحة المشاهدين ونفعهم، ومن الجميل أن البرامج والأفلام كانت تعرض متواصلة بلا أي توقف للدعايات. انقسمت البرامج التي كانت تقدمها المحطة إلى ثلاثة أقسام هي: 1- البرامج التي تستورد من الخارج باللغة الإنجليزية كالأفلام والمسلسلات الأجنبية، ويقوم موظفو المحطة بدبلجتها (تعريبها وتسجيلها بالصوت العربي) 2- البرامج التي تستورد من الخارج باللغة العربية مثل الأفلام العربية 3- البرامج التي تُصوّر محليًا كالأخبار المحلية، وبرامج: صحتك، وبيتك، والسلامة تبدأ بك، والمباراة الثقافية، وزاوية الكتب، ومناظر من المملكة العربية السعودية. كان تليفزيون أرامكو يغطي الأخبار المحلية الرئيسة، ومن ذلك زيارة ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز في شهر مارس عام 1963م، كما كانت تنقل لمحبي الرياضة مجموعة متنوعة من الأحداث الرياضية الدولية مثل منافسات كرة السلة، والبولينج، والجولف وبرامج المصارعة، أما كرة القدم المحلية فكانت تنال تغطية شاملة لجميع مبارياتها خلال الموسم الرياضي. بابا حطاب من الصعب على الكثيرين من أهالي المنطقة الشرقية نسيان «بابا حطاب»، تلك الشخصية المحببة إلى نفوس كل الصغار، وقد بدأ في ثيابه التقليدية المزركشة متربعًا داخل خيمته الزاهية وسط مجموعة من الأطفال يستمعون إليه وهو يقصّ عليهم حكاياته الطريفة الشيقة، كان الأطفال يتسابقون لحضور برنامجه الناجح (ركن الأطفال) الذي يذاع خمس مرات أسبوعيا من تليفزيون أرامكو، وعند انتهاء البرنامج يقوم بابا حطاب بتوزيع الهدايا والألعاب على أصدقائه الصغار المشتركين. فهمي بصراوي فهمي بصراوي من أكثر الشخصيات تميزاً في مجال التعليم والتوعية والإعلام، قدم برامج تعليمية وتثقيفية حازت على إعجاب الجميع، وأحد هذه البرامج التعليمية هو (تعلموا العربي بالتليفزيون)، كذلك قدم البرنامج الأسبوعي (المسابقة الثقافية بين المناطق الثلاث) الذي كان يجمع بين التعليم والترفيه، حيث يأتي الموظفون المتنافسون من المراكز الرئيسة الثلاثة لعمليات الشركة في ذلك الوقت، الظهران ورأس تنورة وبقيق. العلاقات الاجتماعية بسبب عدم قدرة أغلب الأسر على شراء أجهزة التلفزة، كان من المألوف في الزمن الجميل أن يجتمع الأهل والأصحاب والجيران عند مَنْ لديهم تليفزيونات لمشاهدة بث تليفزيون أرامكو لساعات طويلة، مما أدى إلى تقارب الأسر وتقوية العلاقات الاجتماعية، بل إن بعض الأسر في الرياض كانت تنتظر بفارغ الصبر أيام عطل الأعياد والصيف للمجيء إلى أهاليهم في المنطقة الشرقية لمتابعة الأفلام العربية والأجنبية والمسلسلات الأسبوعية. سوق الأجهزة ازدهرت تجارة بيع أجهزة التلفزة في المنطقة الشرقية بعد انطلاقة بث محطة أرامكو، فمن حوالي 200 جهاز في انطلاقة بث المحطة قفز إلى حوالي 15000 جهاز داخل منطقة استقبال المحطة، فمثلاً أدركت معظم المقاهي في مدينتي الدمام والخبر بالمنطقة الشرقية أهمية وجود أجهزة التليفزيون في جذب الزبائن، وهكذا نشأت سوق نشطة ومستمرة لتلك الأجهزة التي كان يستوردها ويبيعها التجار السعوديون. الأخلاق والتقاليد امتاز تليفزيون أرامكو بانضباطه واتباعه أنظمة المملكة في عدم بث ما يتعارض مع الدين أو القيم والأخلاق والتقاليد الأصيلة، حيث يبدأ البث اليومي كل يوم بتلاوة آيات من القرآن الكريم، كما أن المحطة تعلق بثها أوقات الصلاة، وكانت لها برامجها الخاصة في شهر رمضان وفي الأعياد. كانت نهاية تليفزيون الموجة رقم 2 (القناة الثانية) عندما قررت أرامكو في بداية عام 1970م أن توقف بثها بالعربية إثر بدء إرسال التليفزيون السعودي الرسمي من الدمام في نوفمبر 1966م، فحوّلت أرامكو محطتها إلى قناة لبث المسلسلات والأفلام الأجنبية فقط تحت مسمى «القناة الثالثة» التي أوقف بثها نهاية عام 1989م بعد انتشار القنوات الفضائية، وبذلك أُغلقت محطة أرامكو نهائيًا بعد مرور أكثر من 30 عامًا من التميز الإعلامي. عائلة تستمتع بمشاهدة التليفزيون فوق سطح المنزل - الظهران عام 1967م أستاذ العلوم هاشم بدير يعطي درساً عن تجربة كيميائية لعرضها في تليفزيون الموجة رقم 2 عام 1964م بابا حطاب يسجل حلقة من برنامجه التليفزيوني (ركن الأطفال) عام 1960م المصوران محمد الخطيب وعبدالله يوسف في سيارة التصوير التليفزيوني عام 1961م