عندما تصبح الثقافة الشعبية «معولمة»، حينها ستنهار آخر أسوار الممانعة في الحفاظ على التراث الشعبي للمجتمع وتتلاشى تلك المشتركات الجمالية والثقافية الناتجة عن بيئته ومعيشته اليومية. فجزء من ذلك فرضته طبيعة الاتصالات بوسائطها المتعددة والتي عملت على تداخل وسائل العيش للشعوب، والبقية نتيجة لتسارع وتيرة التغيير في أنماط الحياة وظروفها نتيجة للتقدم في العلوم والتقنية. وبالتفاتة بسيطة لفنوننا الشعبية التي يحدد أكرم قانصو خصائصها العامة بأنها (فنون عفوية، تمثل الجماعة، فنون من نتاج المخيلة الشعبية، يتذوقها الناس ويؤمنون بمفعول الرمز فيها)، نجدها وهي في صراع مرير من أجل الحفاظ على موروثها بنقائه وعدم تلاشيه وانحسار حضوره في الحياة اليومية. لهذا يبقى الشعر الشعبي كضمانة لخطر الاضمحلال بمفرداته وصوره الشعرية التي تنهل من اليومي والمعاش وتعكس أسلوب الحياة وهموم المجتمع واشتغالاته، ومن هذا المحدد يكتسي ديوان الشاعر المخضرم جواد الشيخ «غدار يا بحر» الكثير من الأهمية لإصراره على تسييج قصائده بأسوار عالية لا تخترقها الحداثة والعولمة. فبالرغم من حداثة الشاعر بتمرده على بحور الشعر الشعبي السائدة في مجتمعه وعدم تقيده بأنماطها حيث لم نجد حضوراً للأبوذية أو الزهيريات في ديوانه، إلا أن بعض مفردات نصوصه وصورها الشعرية موغلة في اللغة المحلية المحكية وقديمة نسبياً حيث يمكننا إرجاعها بسهولة إلى سبعينيات القرن الماضي: (غِرْزيني نَفْذة زريّ في ذيل نَفنوِفك عصريني في مَرشَك عطر رشَيني فوق جسمك مطر ينزل على كتوفك). فمع هذه الشحنات الجمالية والعاطفية التي يضخها النص في عروقنا بقالب شعري حداثي، بقيت هذه الكلمات والصور الشعرية النابضة بالعشق تراثية، بينما كانت في زمن كتابة النص صورا يمكن إدراكها بتلقائية شديدة ومعبرة عن بيئة كانت تمارس فن تزيين الملابس بخيوط الذهب «الزَريّ» وتنتعش بماء الورد العطري الذي تجلبه من مزارعها.