الأب هِبة عطاءٍ لا تُدرك وظهر يحميك ولا يُنهك، فقده مؤلم ورحيله مر وفراقه جمر يفت الفؤاد فتا، لا تملك له ردّا ولا لحكمه صدّا، ومهما بلغت بلاغةً وأحكمت البيان صياغةً فلن تبلغ وصف الفقد لركنك الركين وحصنك الحصين حتى البكاء الذي تعرفه تنكره فلا الدمع يجري من العين ولا الصوت يحمل غصة البَين... سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟ ورِثاءُ الأَبِ دَيْنٌ أَيُّ دَيْنْ أَيُّها اللُّوّامُ، ما أَظلمَكم! أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ؟ فإذا كان ذلك شوقي، فكيف بغيره! وكنت أحسبني عالما بالفقد حتى عشته، فتبين أنه أعظم من أن تعرفه اللغات أو تحتويه المصطلحات، رغم أنه مكون من ثلاثة أحرف فقط، سهل نطقه وساكنٌ وسطه، غير أن زلزالا من الهول يسكنه، فإذا وقع أوجع. مظلومة كرة الثلج التي توصف المصائب بها، فالفقد يكبر مع الوقت مثلها، لكن لينفجر دون أن يستأذن. رحل والدنا وحبيبنا وصديقنا، رحل عيسى بن إبراهيم الشدي، فودع الدنيا قبل أن تودعه بكلمة (رضا) وأشار بسبابته إلى السماء، بعد ما صارع المرض ستة أشهر حتى حان حينه بآخر ساعة من الجمعة، فارتفعت روحه إلى باريها، في رحيل مهاب لا يليق إلا به. رحلت معه طيب جلسته وحسن عشرته، ولم ترحل ابتسامته التي كانت ساحلا تنكسر عليها أمواج كد الحياة، فلم يبالِ يومًا بمن أساء، ولم يشغل باله بالسفهاء، ولم تكن الدنيا تستحق العناء، فهي عنده «ما تسوى»، يراعي الصغير كالكبير، حتى حلاق المستشفى كان يغضب له إذا أمرته ويقول: «خله على راحته». طبت أبا خالد وطابت ذكراك، فالذي أنجاك من الحرق صغيرا وجعل ذلك سببا لنجاتك من الطائرة التي سقطت شابا، لن يخذلك وأنت في وفادته، فكنت كأسطورة الملك الذي أصيب في إصبعه لينجو، وأسطورتنا التي لا تتكرر. أحدهم يعزيني: كان والدك يملك مفتاحا عظيمًا هو «الوصل» مع الكل، وهو بظني سر تجمع مئات الناس للصلاة عليه ونحن بإجازة صيف وشدة حر، وكلما تأملت وصله بأخته وزوجها المسن حتى بعد وفاتها، وبابنتها بعد أبيها يؤنس وحشتها، رغم ما أصابه من تعب وألم! كلما عرفت سر حبنا له. انتهى حديثه ولم تنته معه الذكريات، انتهى حديثه وقد حملني ما لا أطيق من التبعات، فيا رب أنزله منزلا يليق بفضلك، ورحمة ينال بها رضاك، وكل من نحب.. آمين.