إلى اللَّذَين عاشا معاً ورحلا معاً وتركا وراءهما قلباً يتجرع غصة الفراق مع كلّ نبضة من نبضاته، إلى اللَّذَين أحاطاني بدرع من الأمان مذ ولدت وحين كبرت وحتى بعد أن أصبحت لي مملكة وأنجبت البنين والبنات. لم يفارقني رخاء الطمأنينة قط ولم أشعر أثناء وجودهما بأي نوع من الخوف ولم ينتابني في يوم وجل من المستقبل، وعندما كانا بقربي لم أعِ ما يردده كثير من الناس: (الدنيا غدارة). كانا لي دوحة ألهو في ظلها، أتقاسم مع إخوتي حلو ثمارها، نشرب عذب نبعها، ونشتم أريجها الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً من قبلها ولا من بعدها. دوحتكما يا حبيبَيّ كانت ترتوي من نهر حب جرى من تحتها سلسبيلاً فتفرع عنه ثلاثة، وازدهرت حوله خمس سنابل خضر بفضل رعايتكما وعظيم عنايتكما، وعندما كنت ألحظ براعم الطفولة من حولنا يعبث بنضارتها حر الصيف وقر الشتاء ونزق الطين وكآبة الخريف كانت صدى ضحكاتنا ترسم لمعان نجوم آمالنا وتطبع بياضاً في أفق مستقبلنا. ثلاثة أعياد توالت بعد رحيلكما لم تأت لنا بالأنس كما كانت تفعل من قبل بل جاءت محملة بآلاف الصور وصنوف الذكريات لكي تواسينا في غربتنا، نعم! إنها غربة الأماكن التي تشكو الفراغ بعدكما، وغربة الروح التي تاهت في غصاتها حينما أطلقت الحناجر تكبيرات العيد، وغربة لياليه فأين حلو السمر وترانيم الفرحة؟ فإن كنت قد فقدت نعيم العيش بوجودكما فإني لم أفقد نعيم الشعور برضاكما، وإن كان الآباء يورثون أولادهم الذهب والفضة فقد تركتما لي أيقونة دعائكما التي وصلت السماء بالأرض فألوذ بها كلما لمحت ظل محنة أو أضفى عليّ الدهر نعمة.