كما كانت الجداريات، والكتابة على الأسوار في الأماكن العامة تقرأ باعتبارها لوناً من اللغة الخاصة أو اللغة المشفَّرة التي يستخدمها البعض للتواصل وتعبر عن ثقافة مدنيّة معاصرة، كذلك هي «القصة القصيرة جداً» بعد أكثر من ثلاثة عقود زمنية استغرقها عامل التجريب لتستقر على شكلها الحالي. الرابط بين الجداريات وبينها هو الطبيعة الاحتجاجية المعبرة عن مقدار التأزم العاطفي والاجتماعي وحتى الوجودي للفرد أحياناً. والفارق هو في تطور الوسيط الحامل فقط؛ من الجدار الكونكريتي إلى الورق ثم إلى شاشة عرض برنامج تويتر أو الفيس بوك مثلاً، ومع فارق حاسم آخر يتمثل في الأسلوب واللغة الأدبية الرفيعة وبعض الأدوات السردية التي لم تتنازل عنها «الأقصوصة» لانتسابها إلى جنس القصة. أما الفارق بينها وبين القصة القصيرة فيكمن ليس في زمن القراءة السريع فحسب، إنما في الزمن الاسترجاعي لهذه الجمل المكثفة والمحرضة على التأمل والتفكير ومعاودة قراءتها مرات حتى نصل إلى المعنى وليس فك «الحبكة» كما في القصة. وفي معنى الاحتجاج الوجودي يمكن لنا جلب نص «هروب» للقاص تركي الرويثي كمثال يقربنا إلى ذلك: «حمل حقيبته هربا من ذاكرته ورحل، في صالة الانتظار، وجد شخوصها بانتظاره..!». الجدلية هكذا: أيهما يسبق الآخر الفكر أم الواقع؟ بالطبع لن ننجر إلى مزالق الوجودية وفلسفتها في أن الكلمات سابقة على الأشياء وبالتالي يجب التفكير في الواقع من دون المثال.. السرد في حقيقته يقول ذلك ولكن ببساطة. فحين يلتقط القاص المواقف «الفنتازية» من الحياة، يجدها أكثر لامعقولية من أي فكرة شاطحة قد تلوح عند كسل العقل وتسيد المخيلة التام بحسب شروط المدارس الصوفية. وحيث الواقع لا يزال أكثر دربة وحذقا في عمل الكمائن بتسويجه لأحلامنا ومطاردتها واستدامة مخاوفنا كما هو بارز في النص. القاص فقط أضاء جانب المفارقة ولم يصطنعها لأن الواقع يخلق المفارقات بما تعجز عنه المخيلة.