بالأمس القريب، اختُتمت فعاليات عُرسٍ سنوي أصبح أبناء المنطقة الشرقيَّة، بل وأبناء المملكة والخليج، ينتظرونه عاما بعد عام، ألا وهو مهرجان الساحل الشرقيّ الخامس للتراث البحريّ، الذي يُقام في كل عامٍ على شواطئ مدينة الدمام، قصبة المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. وقبل تسجيل انطباعاتي للقارئ الكريم عن المهرجان وفعالياته، لابد لي من توجيه الشكر والتقدير لجميع من أسهَم أو شارك في هذا المهرجان من معنيين بالتراث، ومهنيّين، وحرفيّين، وفنانين، وإداريين، وعمال، وغيرهم، لأنَّ جهودهم المُتضافرة هي التي أسهمت، بفضل الله، في ظهور المهرجان في حُلَّته الرائعة، عاما بعد عام. والشكر، في هذا، واجبٌ وموصولٌ لأمير المنطقة الشرقية؛ صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود، لرعايته الدائمة للمهرجان ودعمه المستمر له، وكذلك لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود؛ رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ولجميع الجهات التي أسهمت في دعم المهرجان؛ بما في ذلك أمانة المنطقة الشرقية، والإدارة العامة للسياحة والتراث الوطني في المنطقة الشرقية، وكذلك رعاة المهرجان، لجهودهم الجبارة والمباركة التي كانت وراء انطلاق هذا المهرجان واستمراره. كما لا يفوتني، هنا، أن أهنئ فرع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في المنطقة الشرقية، وجميع العاملين في المهرجان بأمرين مهمّين؛ أولهما هو بلوغ المهرجان عامه الخامس بنجاحٍ وتطورٍ مُنقطعي النظير، وثانيهما هو فوز المهرجان، عن جدارةٍ واستحقاق، بجائزة التميُّز السياحي، لفئة الفعاليات والمهرجانات، لدورة عامي 2016 - 2017م، كأفضل مهرجان تراثيّ وثقافيّ على مستوى المملكة. هذا الاستمرار وهذه الجائزة دليلان على جودة الإنجاز، وقوّة تضافر الجهود، والرؤية الواضحة للعمل التي ينتج عنها إنجاز يستحق مثل هذه الجائزة. أما مهرجان الساحل الشرقي للتراث البحري، فقد أبرز، مثل كل عام، العديد من جوانب علاقة الإنسان بجاره العزيز؛ البحر، من اكتساب الرزق والسفر والفنون والعادات والتقاليد والمهن والحرف، وغيرها كثير. كلّ هذا في جوٍّ مفعمٍ باللطفِ والودّ والمحبة، وعامرٍ كذلك بالمعرفة، الأمر الذي جذب أعدادا كبيرة من الزوار للمهرجان. ومن أجمل الجوانب التي شاهدتها في هذا المهرجان التراثي الرائع، الحضور الجميل من أبناء المملكة، ومن المقيمين، وكذلك من الأشقاء الخليجيين، للاستمتاع بفعاليات المهرجان البحرية ذات الصبغة الخليجية، حيث أحيا المشاركون من خلالها تراثا عريقا وعادات وتقاليد عاشها الآباء والأجداد، وعرضوا، على الأجيال الناشئة، جوانب من الماضي العريق، وأبرزوا طبيعة الحياة التي عاشها أبناء الخليج، في أحد أهم جوانبها، ألا وهو علاقة المجتمع بالبحر، وذلك من أجل تعريفهم بالموروث البحري الخليجي، وإبقائه مفعما بالحياة والتفاعل. ومن خلال هذه الفعاليات، أيضا، أبرز المهرجان كيف كان الآباء والأجداد في المنطقة الشرقية، ومنطقة الخليج كلها، يسعون في طلب الرزق، ويركبون لذلك البحر، ويواجهون، بكل شجاعة وإقدام، مصاعب وأهوال البحر، دون أن ينثني عزمهم أو تنكسر هممهم، بل كانوا يُقبِلون على تلك المخاطر بصدر رحب، متوكلين على توفيق الله عز وجل، من أجل كسب الرزق والعيش الشريف، مُشكّلين، بذلك، جزءا جوهريا من تراث منطقة الخير، والخليج ككل، وهويتها، ومن عبق تاريخه المثير. وكشخصٍ عايشَ الآباء والأجداد الذين كانوا جوهر المرحلة الزمنيَّة التي يتحدّث عنها المهرجان، شعرت بكثيرٍ من الحنين إلى ما يُسميه الكثيرون «زمن الطيبين»، ونُسميه نحن «زمان أول»، بكلّ جوانبه. ولكن هناك أمران يتعلَّقان بالمهرجان لهما مكانة خاصّة في نفسي: أولهما: اهتمام المهرجان، وخاصة هذا العام، بالتراث المعماريّ للمنطقة الشرقيّة، إذ أنَّ لي اهتماما شخصيا بهذا الجانب، وأشعر أنَّنا، مع الأسف الشديد، تهاونّا أثناء فترة الطفرة الاقتصادية، في الحفاظ على معالم تراثنا المعماريّ، بملامحه المعماريّة والوظيفيّة الرائعة، لهذا فإنّني أشدُّ على أيدي العاملين على المهرجان مُهنّئا ومُشجعا لانتهاجهم هذا التوجّه الطيّب. والحق يقال إن هيئة السياحة والتراث الوطني، وكذلك أمانة المنطقة الشرقية، بدعم من سمو أمير المنطقة الشرقية، قد أطلقتا مبادرات سابقة في هذا المجال، وقد بدأ العمل، من خلال هذه المبادرات، على إبراز هذا الجانب المشرق من تراثنا وتاريخنا العريق. وثانيهما: أنني أعتقد أنَّ دور المهرجان يتجاوز الذكريات الجميلة والترفيه عن الزائرين، وإن كان قد نجح في هاتين المهمتين بامتياز، إلى ربط إنسان هذه الأرض بجذوره، وتعريفه بإرث الآباء والأجداد، لأنَّنا، كما أسلفت، بسبب انشغالنا بالطفرة الاقتصادية التي عاشتها بلادنا الغالية، والتي جنت ثمارها نماء وازدهارا ونهضة في جميع المجالات، عانينا من ذوبان وضعف روابطنا مع تراثنا، سواءٌ، في ذلك، النمط المعماري والعادات والتقاليد والفنون والحِرَف، وبدأت تظهر لدينا أجيالٌ لا تكاد تعرف من هذا التراث إلَّا القليل، لهذا فإنَّ دور المهرجان في إعادة ربط المُجتمع بجذوره التراثية دورٌ جوهري ومهم، وهو من الأمور التي أُقدّرها، شخصيا، للمهرجان وللقائمين عليه. وإذا كان لي من أمل ورأي متواضع في تطوير المهرجان فهو في الحقيقة ذو ثلاث شعب: أولاها: أن يستمر المهرجان ويتطوَّر ويحرص على التعليم المرتبط بالترفيه، فيقدّم المعلومات التراثية والتاريخية الصحيحة والموثّقة في إطارٍ مشوّقٍ يجذب الزائر ويُفيده في آنٍ معا. وثانيتها: أن يتضمَّن المهرجان، أو أيَّ نشاطٍ آخر موازٍ له، موضوعاتٍ تتعلَّق بتاريخ وتراث المنطقة القديم، فحياة الإنسان وعمارته لهذا الجزء من العالم، قديمةُ ترجع في بعض الأماكن إلى ما يقرب أو يزيد على أربعة آلاف سنة، وجُل الناس لا يكادون يعرفون شيئا عن هذا الجانب من الإرث الإنسانيّ الثري للمنطقة الشرقيَّة. وثالثتها: أن تتَّسع نشاطات ومهرجانات الهيئة العامَّة للسياحة والتراث الوطني في المنطقة الشرقية لتُبرز، بنفس الأسلوب الجذّاب والناجح، الجوانب الأخرى من تراث وحياة الإنسان في هذه المنطقة. فالمنطقة الشرقية تقع عند مطلع الشمس على أرض الجزيرة العربيَّة والمملكة العربيَّة السعوديَّة، وهي أكبر مناطق المملكة مساحة، ومن أكثرها تنوّعا وبهاء. وفي المنطقة الشرقيّة، الحدود التي تربط المملكة بستّ دولٍ عربية. وبالإضافة إلى السواحل الجميلة المُمتدة، ومياه الخليج العربي الفيروزيّة الآسرة، والجُزر المأهولة وغير المأهولة المتناثرة قبالة شواطئها، هناك الصحراء التي تخلب الألباب بروعة هدوئها، واتّساعها الأخّاذ، في الربع الخالي، أحد أكبر الصحارى الرملية في العالم، وفي الدهناء بحُمرة رمالها القانية. وفيها الواحات الخُضر في الأرض اليباب، تبهر الأنفاس باتساعها وتنوع أشجارها ونخلها، في الأحساء، أكبر واحة نخلٍ في العالم، وفي القطيف الغافية في سكونٍ على شاطئ الخليج العربي. وفي المنطقة الشرقية، التاريخ والحضارة اللذان يمثلان قرابة خمسة آلاف سنةٍ من الاستيطان في الجرهاء، وثاج، ودارين، ووادي المياه وغيرها. وفي المنطقة الشرقيَّة، أصالة وعُمق الانتماء الإسلامي في جواثى، حيث مسجد بني عبدالقيس، الذي صُلِّيتْ فيه أوّل جمعة بعد مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. كل هذه الجوانب تستحق، في نظري، أن تُفرد لها مهرجانات مماثلة، أو أن تُوسّع قاعدة المهرجان الحالي لتشملها فتلقي الضوء على جوانب من تاريخ وحياة الإنسان، وإرثه العظيم، قد تكون غائبة عن الكثرة الكاثرة من أبناء المنطقة، فضلا عن غيرهم. هذا هو تاريخنا العريق، عندنا وبين أيدينا، لا حاجة بنا إلى أن نُعيد صُنعه اليوم فقد صنعه آباؤنا وأجدادنا قبلنا، وهو من أفضل نعم الله علينا، ولكن بات لزاما علينا شكر هذه النعمة من خلال إظهارها وتعريف الناس بجوانبها الثرية العريقة عملا بقوله تعالى «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ». كما أنني أقترح أن يتمَّ استغلال المهرجان لتكريم كلّ من كان له دور حقيقي في الحفاظ على التراث في المنطقة الشرقية بكلِّ جوانبه، بحيث تُخصَّص، ضمنه، جائزة تكريميَّة ذات أفرع، تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، التدوين التاريخي، والعمارة والفنون الشعبيَّة الرجاليّة، والفنون الشعبيَّة النسائيَّة، والحرف والمهن التقليديَّة الرجاليَّة والنسائيَّة، وفنون الأدب الشعبي المختلفة كالشعر، والزهيري والموّال وغيرها. وختاما، لابد لي من أن أؤكد أنَّ مهرجان الساحل الشرقي يُعدُّ إضافة متميزة لبرنامج الحياة في المنطقة الشرقيَّة، وإثراء لزواره ومتابعيه فيما يتعلَّق بالبحر وعلاقة إنسان المنطقة به، بكلِّ أبعاد هذه العلاقة. ولأنَّ البحر، وما ارتبط به من عاداتٍ وتقاليد وأساليب حياة، تعتبر كلّها من القواسم المشتركة المهمّة بيننا وبين أشقائنا في دول مجلس التعاون، فإنّني أهنئ القائمين على المهرجان على استضافتهم عددا من المشاركين من دول المجلس، الذين كان حضورهم إثراء حقيقيا للمهرجان وتأكيدا على رغبة صادقة من جميع الأشقاء في دول المجلس على العمل سويا للحفاظ على هذا التاريخ الأصيل وإحيائه لينبضَ ويعودَ حيّا أمام عيون الأجيالِ الجديدة لأن «اللي ماله أول، ماله تالي».