أؤمن إيمانا قاطعا (لا شك فيه) أن من حق الشاعر أن يكتب قصيدته كما يشاء، وفق أي شكل وصورة يشاء، دون إملاء من أحد، أو خضوع لسلطة أحد، فالنص الشعري هو «لحظة الانتصار لحريةٍ طالما هُتكت»، كما قلت في أحد نصوصي الشعرية القديمة. ورغم أنني قد لا أميل ولا أرتاح للشعر الذي يجنح للإبهام والألغاز بسبب كثافة أغصان غابته المجازية، وتراكم صوره واستعاراته في عتمات بعضها فوق بعض، إلا أنني أحترم اختيار الشاعر، وأتفهم دوافعه لكتابة نص كهذا، فالشعر في كثير من الأحيان هو فن كتابة ما لا يقال. أما ما لا أتفهمه وأجد في نفسي صعوبة في تقبله، حتى إن كان ذلك على مضض، فهو أن يكتب الناقد، ناقد الشعر، بأسلوب مشابه وغير بعيد عن أسلوب الشاعر، فيما بات يحلو للبعض تسميته نصا موازيا للنص الإبداعي، أي أن يوزاي النصُ النقدي النص الإبداعي في لغته الإبداعية، فيكون الناقد حينها أشبه بالأعمى الذي يقود أعمى مثله في ردهات ومضايق النص المجللة بالعتمة، وهو أمر منافٍ للمنطق وطبائع الأشياء. المفترض بالنص النقدي أن يلقي الضوء على المناطق المعتمة في النص الإبداعي، وأن يعمل على تحليله وتأويله، وأن يكون دليلا ورائدا للقارئ لاستكشاف ما استغلق من العمل الإبداعي، وهو أمر لن يتحقق ما لم يتحر الناقد الكتابة بلغة مفهومة ومباشرة، بعيدا عن التهويم اللفظي والسباحة في وحل التراكيب اللغوية التي يريد من خلالها الناقد أن يثبت أنه ليس أقل شأنا من الشاعر الذي يهوم ويهيم في ممالك لا حدود ولا آفاق لها من الخيال. ليس معنى هذه الدعوة بالطبع أن تكون غاية النقد هي السعي لتبسيط النص الإبداعي، وتقريبه من فهم القارئ فحسب، دون أن تكون للناقد وجهة نظره وتحليله وتأويله الخاص الذي يمنح للقارئ عيونا يرى بها ما وراء سقف النص.