معروف أن الحمام من الطيور التي تعايشت مع البشر (بقرب مستوطناتهم ومزارعهم ومدنهم وقراهم) منذ آلاف السنين، كما استأنسها الإنسان في مراحل متأخرة، وأصبحت في عدد من مناطق العالم من الطيور الداجنة، وتعود السلالة الأولى من الحمام المستأنس إلى ما يسمى حمام الصخور (Rock Dove)، وهي منتشرة في بقاع العالم المختلفة، خاصة في الأرياف والمدن الصغيرة. لكن هل لسلوكها علاقة باتخاذها رمزًا للسلام، أو لطبيعة تعايشها مع الإنسان، خاصة إذا تابعنا في فعاليات تطبيق تلك الرمزية في عدد من المناسبات العالمية أو الوطنية، التي يُطلق فيها إلى الأجواء حمامات بيضاء؟ وهل للون الأبيض دلالة أيضا على السلام، أم هي عنصرية من الرجل الأبيض المتسيّد في الحضارة الحديثة؟ أما صوت الحمام، وتعامل الثقافات المختلفة مع ذلك الصوت وتأويله، فهو قصة أخرى؛ إذ يتميز ذلك الصوت باختلافات متعددة في الطول والشدة والطبقات، بناء على حجم الحمام وعمره ونوعه أيضا. والجدير بالذكر أن هناك بعض أنواع الحمام يصدر أصواتًا قريبة من أصوات العصافير، وأكثر ما يصدر هذا الصوت، الذي يتصف بالرقة، عن ذكر الحمام عندما يفرد ذيله ويتودد إلى الأنثى. وربما كان لكبر رأس الذكر دور في القدرة على إصدار ذلك الصوت، مثلما أنه يحتاج إلى بعض الأنغام الرقيقة، وهو يغازل أنثاه. وهل تختلف أصوات الحمام بناء على الموقع، فيما إذا كان في العش أو فوق الأشجار، أو خلال بعض رحلات الطيران أو البحث عن الطعام، أو التحدي أو الاستعراض أمام الأنثى؟ ثم ما دلالاتها للإنسان أو تأويله لها؟ لأنه بالطبع ستكون استخداماتها اللغوية بين الحمام مختلفة عن تلقي الإنسان لها. من المؤكد أن الفكرة الأخيرة (تلقي صوت الحمام) ستكون مختلفة من ثقافة إلى أخرى، ففي الثقافة العربية، التي استبطنت تلك العلاقة، لكون هذا الطائر من الكائنات القليلة المحيطة بالإنسان العربي في منزله وبيئته أو في الطبيعة المحيطة به. فحولت ذلك الصوت (أو الأصوات الصادرة عن الحمام باختلاف الظروف) إلى مادة للمقارنة أو الاستجابة مع ظروف الأفراد النفسية، وأوضاعهم الاجتماعية، وأطلقت عليها عددًا من التسميات، التي تسهل عملية إدراجها في تصنيف مزاج الإنسان. فنجد مثلاً في التراث العربي مصطلحات كثيرة للدلالة على تلك الأصوات؛ منها: الرنين والترنم لصوت الحمام في سجعها، والترجيع لصوته الذي يردد شدوه متقطعا، والعرين في الإشارة إلى ذكر الحمام، والهديل صوت الحمام بعامة، والبري منه على وجه الخصوص كالدباسي والقماري، والهتاف أيضاً صوته على الإطلاق ولكن من بعيد، والرعيب وهو صوت هديل الحمام المرتفع، والعبيب صوت شرب الحمام الماء (ولا أدري كيف يسمعون صوت شربه!)، والتغريد وهو صوت الحمام المحمود، والهَدْهَد وهو صوت الحمامة الواحدة بمفردها، والقرقرة وهو صوت الحمام مجتمعًا، والهدير وهو صوته من الحنجرة (للذكر مع رفع هامته ونفش ريش العنق)، واللغط لصوت الحمام المجاور للمساكن، والوكوكة صوت الحمام البعيد، والقرقفة صوت الحمام الشديد، والشجون وهو صوت الحمام كالنواح المثير للحزن (وربما كان هذا سر ارتباط الشعراء به)، والسجع صوت الحمام المتردد بطريقة واحدة، والتغنية صوت الحمام المترنم المطرب، والنوح صوت سجع الحمام وصياحه، والهتف وهو صيغة أخرى من الهتاف ويشير إلى صياح الحمام الممدود. ومما لا شك فيه أن المتأمل للشعر العربي يرى الشعراء قد أدخلوا هذا العنصر ضمن بيئة الصور الشعرية المرتبطة بالمشاعر مثل القمر والنجوم والأطياف الزائرة والأطلال الخربة التي كان يسكنها الأحباب، مما يجعل شدو الحمام أو نوحه يطربهم أو يشجيهم، لأنهم ذوو أفئدة رقيقة. كما أن لهم آذانا مصغية إلى الطبيعة، وخاصة أصوات الكائنات المجاورة لهم كالطيور فوق الأشجار أو المنازل. وكثيرا ما نراهم يشاركون القمريّ مناجاته، فيهيج لهم أحزانًا دفينة، ويبعث فيهم الشوق بعد طول رقاد، مثلما تغنى أبو تمام بتلك الصورة: غنّى فشاقك طائر غرّيد لما ترنم والغصون تميد وعلى غراره كانت أبيات أبي فراس الحمداني، الذي يريد من الحمام مقاسمة الأحزان، أو استعارة قدرة الحمام على نفث تلك المشاعر بصوت يغدو في الأثير: أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارنا: هل بات حالك حالي معاد الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببال لقد كنت أولى منك بالدمع مقلةً ولكن دمعي في الحوادث غال. فتلقي صوت الحمام إذاً أقرب إلى كونه اسقاطا يعبر به عن مكنونه بوسائل مفهومة ومرغوبة لجمهوره، أكثر منه أداة موضوعية لاستقبال تلك الأصوات والتفاعل معها.