تعرفت إلى «القافلة» قبل بضع سنوات، في شتاء عام 2012 حمل إلي ساعي البريد مغلفا أرسله صديق عزيز من الرياض، ضم أربعة أعداد مختلفة من مجلة «القافلة» التي تصدر عن شركة الزيت العربية السعودية «أرامكو»، فضضت المغلف على عجل وبدأت بتصفح المجلات واحدة تلو الأخرى، قرأت موضوعا هنا وموضوعا هناك منقادا إلى مزاجي الشخصي، بعد قليل أدركت أنني بمواجهة مجلة ثقافية منوعة، تعرف ماذا تريد أن تقول، وكيف تقول، تستهدف بالمجمل القارئ العام غير المتخصص الذي يشكل الشريحة الأكبر من القراء في الوطن العربي.. وهي الشريحة التي تضم الطالب والمعلم والطبيب وربة البيت والمحاسب وموظف البنك والأستاذ الجامعي وسواهم من القراء المتعطشين لتوسيع مداركهم وتطوير معارفهم. بعد ساعتين، رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالصديق الذي أرسل تلك الأعداد لأثني على التفاتته الكريمة، وأسجل له إعجابي بالمجلة وبجهود العاملين فيها.. وسألته مازحا: «هل أنت متأكد أن هذه المجلة تصدر في الوطن العربي؟!» توطدت علاقتي ب«القافلة» بعد ذلك، أصبحت تصلني أعدادها بانتظام، تعرفت إلى طريقة تفكيرها وتبويبها وتحريرها، وأسلوبها في معالجة النصوص والصور، اطلعت على زواياها التي جاءت تحت مسميات أنيقة: «بداية الكلام»، «قول في مقال»، «ابتكار ومبتكر»، «ماذا لو؟»، «حياتنا اليوم»، «فنان ومكان»، «عين وعدسة»، «أقول شعرا»، «بيت الرواية».. قرأت عددا من ملفاتها التي عادة ما تكون سخية بأفكارها وعميقة في تناولها: «الجسر، المهرج، الشاحنة، علامة السؤال، الفريسة، اللون الأحمر، الفزاعة، المصباح.. الخ»، واستمتعت بموضوعات ودراسات علمية وأدبية وثقافية متنوعة: «مع الانطباعيين على موائدهم» و«صورة البطل الرياضي اليوم!»، و«اللعبة الإلكترونية: كيف تصمم وتطور؟» و«ثمن الماء» و«بيولوجيا الاشمئزاز» و«أيتها الطاقة البديلة: أين أنت؟» وسواها. تشكلت لدي قناعة، أن مجلة بهذه الإمكانيات والمواصفات، تختلف في كل شيء عن شقيقاتها من المجلات الثقافية العربية، قادرة على أن تستقطب قراء من مختلف الأعمار والتوجهات فهي ليست مجلة للنخب ولا للصالونات الثقافية، إنها مجلة ثقافية للناس، أو هكذا يراد لها أن تكون. غير أن الذي فاجأني أنها ليست منتشرة على نطاق واسع في الوطن العربي، ولا أعلم مدى انتشارها في المملكة العربية السعودية. فهي لا تباع في الأسواق، بل توزع مجانا للمشتركين، فما على الراغب بالحصول عليها سوى أن يسجل بياناته في موقعها الإلكتروني، ولكني أصبت بصدمة عندما راجعت عددا من المصادر المتوافرة لدي عن المجلات الثقافية العربية والسعودية بشكل خاص، ومنها كتاب صدر مؤخرا بعنوان «المجلات الثقافية في الوطن العربي» ضمن منشورات مجلة دبي الثقافية الإمارتية 2015 استعرض أهم المجلات الثقافية في عدد من الدول العربية: مصر والإمارات والسعودية والكويت وقطر، خاب أملي عندما لم أجد ما يشير إلى «القافلة»، أو ينوه إلى دورها في الصحافة الثقافية. فقد ذكرت اسماء مجلات ثقافية وأدبية سعودية منها: نوافذ، جذور، الفيصل، الخطاب الثقافي، المنهل. وسواها، لكن اسم «القافلة» لم يذكر. ولم أجد لذلك تبريرا مقنعا، فالمجلة مختلفة عن سواها من المجلات الثقافية المعروفة. صحيح أن كلا من هذه المجلات لعبت دورا كبيرا في مرحلة ما من مسيرتها، وحققت نتائج محمودة على مستوى الانتشار والقراءة، لكنها تقع الآن بجملتها في مشكلات لا تحسد عليها على مستوى التحرير والإخراج والانتشار والتمويل، فمجلة دبي الثقافية التي تألقت في مطلع الألفية الثانية وتميزت بشكلها الأنيق وفخامتها الإخراجية توقفت فجأة عن الصدور بداعي إعادة الهيكلة، وثمة مجلات ثقافية أخرى تصدر وكأنها لا تصدر، بينما ما زالت مجلة «القافلة» تسير بثبات منهجي وفكري وتربوي منذ صدورها الأول قبل أكثر من ستين عاما. إن منهج «القافلة» في اختيار وتناول الموضوعات الثقافية، وأسلوبها في العرض والمعالجة الفنية وسياستها التحريرية، يعد اتجاها مرموقا في الصحافة الثقافية العربية، فالحديث عن أكياس البلاستيك وأثرها البيئي الضار بوصفها أفضل اختراع سيئ، لم يأخذ حقه حتى في صحافتنا المتخصصة. والكتابة عن الحدود الفاصلة بين الاقتباس والسرقة الأدبية، موضوع أدبي ساخن قد لا نجد له أثرا في كتاباتنا الأدبية والنقدية خارج الأسوار الأكاديمية، والحديث عن الهايبرماركت باعتباره الجيل الثالث بعد الدكان والسوبرماركت موضوع يتميز برصد ذكي للتطور الذي طرأ على فكرة التسويق بإطارها الاجتماعي والتجاري معا في ظل التشكل المتواصل للعمارة وأنماطها الجديدة في المدينة الحديثة، مثل هذه العناوين وسواها في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا والفنون والآداب، تعبر عن زوايا نظر غير تقليدية للشأن الثقافي الذي يتصل بحياة الناس، والشباب منهم بشكل خاص، لأنه يلامس احتياجاتهم للفهم ولتشكيل الأفكار. «القافلة» نجحت ليس في أن تستمر فقط، بل استطاعت أن تتفوق وتتجدد بمواكبتها لإيقاع العصر، وقدرتها على التقاط النبض الخفي للشارع الثقافي، ورصد التحولات الفكرية العميقة للخطابات المتخفية في الظواهر الاجتماعية والثقافية.. و«القافلة» قبل كل شيء، المجلة التي تستطيع أن تعيدنا مرة أخرى إلى أحضان القراءة. في كل مرة يصلني عدد جديد من هذه المجلة الأنيقة، أرفع سماعة الهاتف لأشكر صديقي في الرياض، وأسأله مازحا: هل أنت متأكد أن «القافلة» تصدر حقا في الوطن العربي.